.. ولما جاء زمن الثورة انشق أهل النظام العربي على أساس «طبقي»: تكتل أهل الثروة بالمصادفات القدرية لمواجهة الآتي مع حضور الشعوب بعد غياب طويل، وارتبكت الإدارة الاميركية لبعض الوقت قبل أن تباشر مواجهة الخطر الداهم بالنفاق السياسي لأهل الثورة بقصد استيعابهم، في حين تبعثر الحكام الفقراء يحاول كل منهم حماية عرشه بما بين يديه من أسباب القوة.
ودخلت ميدان المواجهة أسلحة جديدة لتتولى مباشرة الهجوم المضاد على الثورة أبرزها وسائط الإعلام والتواصل، بدءًا بالفضائيات وصولاً الى الفايس بوك والتويتر والرسائل البرقية التي يصعب ضبط مصدرها وصدقية «شاهد العيان» الذي يمكن استحضاره في أي مكان أو زمان.
ولقد شهد المواطن العربي الذي كان في الغالب الأعم، في موقع المتلقي، غارات على عقله عبر عينيه وأذنيه، بالصوت والصورة والكلمة المطبوعة أو الطائرة مع الهواء، بحيث كادت تختلط عليه الأمور، وتاه في طوفان المعلومات التي يستحيل عليه تدقيقها وكشف نسبة المبالغة أو التزييف فيها.
في تونس كانت المفاجأة صاعقة، خصوصاً وقد بدأت بمأساة إنسانية لم يقرأ فيها أحد شرارة انفجار الثورة: أحرق محمد البوعزيزي نفسه احتجاجاً على الظلم وعبر خطاب وجداني مؤثر يمكن – لبساطته – اعتباره المانيفيستو المؤهل لرسم ملامح الغد. ولان الجو كان محتقناً بالغضب والشعور بالمهانة فقد امتد الحريق الى قصر الطاغية في تونس العاصمة… وحسم الجيش الأمر حين رفض التصدي للثورة، فإذا بن علي ينتهي لاجئاً في مملكة الصمت الأبيض.
في مصر كان الأمر أكثر تعقيداً حيث ليس للثمانين مليوناً من البشر تنظيمات حزبية أو سياسية تكتل مجامعيهم وتوحد شعاراتهم، لكن التجربة التونسية أهدتهم العنوان السحري لبرنامج العمل: الشعب يريد إسقاط النظام.
وكما في تونس، تولى البوليس السياسي القمع في مصر، في حين ظل الجيش بعيداً عن التصدي للشعب… وهكذا حسم «حياد» الجيش الموقف، خصوصاً أن شراسة قمة النظام في مواجهة المواطنين العزل بلغت ذروتها الدموية بالقتل الجماعي، فكان ان انحاز الجيش الى مطالب الشعب حرصاً على شرف المؤسسة التي يحفظ لها المصريون دورها الوطني بكثير من التقدير.
أما ليبيا فكانت نموذجاً مختلفاً الى حد الفرادة: لقد تفجر الغضب الشعبي في شرقها، متخذاً من بنغازي قاعدة الانطلاق، ورد معمر القذافي ونجله سيف الإسلام بقرار التصدي بالسلاح للثوار الذين لم يكونوا يحلمون بإسقاط النظام والذين يعرفون طبيعته الشرسة وحجم القوى المسلحة التي يمتلكها من دون أن تكون في يد الجيش.
هكذا وفي غضون أيام تولى الحلف الأطلسي قيادة «الثورة» في حين تصدت كتائب القذافي الموزعة على أبنائه (وكل منها جيش) للحرب بسلاح النفط أولا، ومن ثم بترسانة الأسلحة الحديثة الموزعة على الجهات المختلفة.
بنغازي مدينة عاصية منذ زمن بعيد، ولذلك فهي مهملة، وطرابلس مدينة بلا هوية، والولاء القبلي تم تجديده بالدولار، لذلك أخذت العصبية القذافي الى سرت التي جعلها عاصمة غير معلنة ولكنها مركز الحكم ومؤتمرات القمة. الشرق مسقط من الذاكرة، والجنوب البعيد قبلي مع أقلية من الطوارق، والغرب زنتاني بطابع الامازيغ، والخطوط مفتوحة مع الجزائر التي تخشى تمدد الثورة وتتخذ من النفط درع حماية.
وبين بنغازي والشرق الليبي عموماً ومعمر القذافي ود مفقود منذ زمن بعيد. وحين وافق القذافي على مشروع الشريط الممتاز عن بطل النضال العربي في ليبيا الشهيد عمر المختار فقد عانى منه المخرج المبدع مصطفى العقاد مر العذاب، لأنه أصر على ان ينتهي الشريط بثورته، متجاهلاً الفجوة التاريخية الواسعة بين الحدثين.. وكان على العقاد أن يبتدع حيلة الطفل الذي يقفز الى منصة الإعدام ليلتقط نظارة المختار، موهماً القذافي انه يرمز اليه… ومع ذلك فقد أصر الأخ معمر على إضافة ما يكاد يكون فيلماً كاملاً عنه وعن ثورته في نهاية الشريط للعرض الخاص.
في ليبيا، اذن، بدأت المواجهة بين الثورة وبين الصعوبات التي تكاد تبلغ حد استحالة النصر. وكان العنوان: النفط. والنفط معادٍ للثورة. النفط غرب والثورة شرق. الغرب ضد الثورة ومع النفط. لا تلتقي الثورة والنفط.
وهكذا نزل النفط الى ميدان المعركة ضد الثورة من أقصى المغرب الى أدنى المشرق: أوفد حكام النفط طائراتهم المقاتلة، أميركية وبريطانية وفرنسية، وأموالهم وبعض شيوخ قبائلهم الى ليبيا لمناصرة الحلف الأطلسي الذي سرعان ما نال تفويضاً عربياً بقيادة «الثورة»، تلاه تفويض أممي.
… أما الى البحرين فقد أوفد حكام النفط جيوشهم للقضاء على انتفاضة ديموقراطية سلمية تطالب بالحد الأدنى من الحقوق الطبيعية للإنسان، فكان القمع وحشياً، قتلاً وتهديماً واعتقالات وتعذيباً، حتى يكون أهل البحرين الذين رفضوا – في استفتاء أشرفت عليه الأمم المتحدة قبل أربعين عاماً – الانضمام الى إيران متمسكين بعروبتهم وبروابطهم العائلية بأهلهم العرب لا سيما في العراق.
في اليمن المنشقة جماهيرها بين حاكمها شبه الأبدي وبين خليط المعارضات فيها، كان لا بد من استخدام السلاح الذي لا يفل: الدولار. وهكذا ذهب أهل النفط حاملين أكياس الذهب لشراء الثورة والدكتاتور والقبائل والمشايخ والمضائق معاً. فخطر العدوى سريع الانتشار في هشيم المجتمعات الممنوع عنها النور والرأي وسائر مقومات الديموقراطية.
أما في سوريا فالأمر أكثر تعقيداً، لان النظام كان يحظى بتزكيات دولية وعربية عديدة، وكان يبدو متميزاً بنشاطه في نسج التحالفات… لكنه كان فردياً، يرتكز على حزب شاخ وفقد مبرر وجوده ولم يعد يمثل طموح شعبه، ولم يعد مفيداً لحجب مواقع السيطرة الفعلية ولا مؤهلاً لطمس الطبيعة الأمنية للنظام. ثم ان موضوع البحرين، ومعها اليمن ومن قبلهما العراق تحت الاحتلال، ثم لبنان بالخلافات المفتوحة على الطائفية لقواه السياسية المتعددة، كل ذلك قد أعاد طرح المسألة المذهبية وبقصد مقصود… وهذا يصيب مقتلاً في النظام السوري العلماني نصاً، وفي مجتمع متنوع عنصرياً وطائفياً وان ظلت الهوية العربية هي الأساس.
نعود الى الإعلام ودوره في الثورة كما في الثورة المضادة.
ليس اكتشافاً القول ان أهل النفط هم من يملكون الإعلام الأوسع انتشاراً والأقوى تأثيراً في زمن البؤس العربي. لقد انتقلت القيادة السياسية الفكرية – الثقافية من البلاد ذات الأهلية بالنضج السياسي وغنى التجربة الثقافية الى دويلات النفط التي تكاد تكون محميات أميركية ومنصات توجيه إسرائيلية. لقد صادر أهل النفط الهواء، وصادروا الكلمة المطبوعة وصادروا شعارات الثورة فباتوا يتحكمون بعقول المشاهدين والمستمعين، مستفيدين من غباء الدول ذات الأنظمة البوليسية التي ترى في الإعلام مجرد بوق يعمم الجهل والتخلف على رعاياها.
وليس اكتشافاً القول ان الإعلام الخاص المحكوم بمصالح أهل المال والولاء السياسي المحدد إنما ينطق باسم هؤلاء جميعاً، ولا يتردد في نشر ما يرون فيه نفعاً لهم، ولو على حساب بلادهم. وبديهي ان إعلام الفقراء لا دور له ولا تأثير إلا في التفاصيل المحلية.
إن الذهب الأسود يحاول أن يشتري ثورات الفقراء من أبناء الشعوب العربية. انه يخادعهم وينافقهم ليضللهم، فيقدم درع الجزيرة على أنها قوة تحرير، ويقدم الحلف الأطلسي على انه قيادة ثورية.
لقد انتفخت أحجام شيوخ النفط، فتصوروا أنفسهم أصحاب القرار في الشؤون العربية المصيرية، بوصفهم الوكلاء المحليين للإدارة الاميركية، ترسم لهم الأدوار فيبادرون الى تنفيذها بطائراتهم المحملة بصناديق الذهب.
وها ان مجمع أهل النفط يغدو أشبه بمجلس الأمن القومي المضاد للثورات في الوطن العربي. وتصور بعض الشيوخ الذين يعطيهم المال الذي لم يتعبوا في تحصيله انهم باتوا أصحاب القرار في مصائر الدول الفقيرة: يذهبون الى حسني مبارك في الساعة الأخيرة للنجدة، ويذهبون الى الرئيس السوري بشار الأسد بما يشبه الإنذار- المساومة -: «اقطع مع إيران ونحن جاهزون وإلا اعتبرناك من الخوارج!».
ان الثورات الوطنية محاصرة بالمال العربي بقدر ما هي محاصرة بالضغوط الاميركية والتهديدات الإسرائيلية التي تعززت بالتحالف غير المقدس مع أعداء التغيير من أهل النظام العربي.
ومؤكد ان الإعلام الفضائي النفطي يلعب دوراً تضليلياً خطيراً ويشوه الوقائع والمواقف، يزوّر طبيعة الثورات ويزكي القيادات المشبوهة، ويحرك النعرات الطائفية والمذهبية من خلال تشويه الحقائق وتزوير الوقائع خدمة لأغراض مموليه ورعاتهم الاميركيين.
وبين ابرز مهام الثورة العربية الجديدة ان يكون لها إعلامها القومي القادر على إلحاق الهزيمة برعاته مرة ثانية، بعدما هزمتهم باقتلاع بعض كبارهم من مواقع الطغيان التي كانوا منها يتحكمون برعاياهم ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية