من حق أي عربي من خارج مصر أن يعلن اليوم – صراحة – خوفه على مصر ومنها بعدما ظل «الميدان» فيها على امتداد ثمانية عشر شهراً مصدر الأمل بإسقاط نظام الطغيان ليس في المحروسة وحدها بل كذلك في مختلف أرجاء الوطن العربي.
لقد توالت مجموعة من المفاجآت والتطورات من خارج السياق المنطقي للأحداث فبدلت في «المشهد» جذرياً، فتوارت الثورة وشعاراتها الواعدة بغد أفضل ليحتل «الانقلاب» واجهة الأحداث، متجاوزاً «الميدان» ومطالبه، والانتخابات النيابية ودلالاتها، ثم الانتخابات الرئاسية ونتائجها شبه المعلنة والتي يفترض أن تصبح «رسمية» اعتباراً من صباح غد (الخميس).
بهدوء مريب، وفي ظل احتدام الصراع الانتخابي بين قوى «الميدان» متعددة الاتجاه، اندفع المجلس العسكري ليلغي نتائج الانتخابات النيابية عبر حكم قضائي متعجل أصدرته المحكمة الدستورية العليا، ثم ليصدر ما يشبه «البلاغ الرقم واحد» عبر»إعلان دستوري» يفوض فيه ذاته بصلاحيات المراجع العليا في الدولة جميعاً… فهو فوق «رئيس الجمهورية» الذي عليه أن يرجع إليه في قرارات الحرب والسلم بل وفي تدخل القوات المسلحة في حفظ الأمن الداخلي وحماية المنشآت الحيوية بالدولة، فضلاً عن «حالات استخدام القوة والقبض والاحتجاز والاختصاص القضائي وحالات انتفاء المسؤولية».
كانت القوى السياسية جميعاً منشغلة بالصراع الذي بلغ ذروة احتدامه في معركة انتخاب رئيس الجمهورية، بكل ما رافقها من حملات تشهير متبادلة ومواجهات في الشارع ، خصوصاً بعدما انحصرت المنافسة بين مرشح «الإخوان» الدكتور محمد مرسي ومرشح «الفلول» أو «النظام المخلوع» الفريق احمد شفيق… في حين خرجت قوى التغيير ذات الشعار الديموقراطي والتوجه الوطني- العربي من «الميدان» وقد انقسمت على ذاتها وضربها اليأس من تحقيق التغيير الذي تطمح إليه بالوسائل الديموقراطية، فهربت إلى «الورقة البيضاء» أو إلى «الكنبة» تعبيراً عن احتجاجها ومداراة لإعلان خسارتها الجولة الاولى في إعادة بناء النظام البديل.
ولقد دهم شعور عميق بخيبة الأمل ملايين العرب خارج مصر المفجوعين بالصراع على السلطة الذي أخذ يتحول تدريجياً إلى ما يشبه «الحرب الأهلية» في سوريا التي طالما احتل نضال شعبها مساحة في الوجدان القومي، والخائفين على العراق من مشاريع الفتنة والتقسيم، والذين تكاد تنهك مجموعهم الخيبة والعجز عن مواجهة المشروع الإسرائيلي الذي خلا له الجو فتمدد من فلسطين، التي صارت نسياً منسياً، الى ما حولها وما بعدها من دول العرب وثرواتهم الطبيعية، ليغدو شريكاً مقرراً في شؤون مستقبلهم.
لقد تحولت «الثورة» في مصر الى «صراع على المواقع» بعدما تم تعطيل «الميدان» بالخلافات والصراعات التكتيكية التي قسمت أهله وشرذمت قواه عبر التنافس على السلطة، سواء في المجلس النيابي ومجلس الشورى او في الرئاسة، ليتبين – بعد فوات الأوان – ان المجلس العسكري هو وحده من يملك خطة للحركة تمكنه من استغلال هذا الاضطراب وتعاظم الخلافات بين قوى التغيير لكي يفرض أمراً واقعاً كان قد اعدّ له عدته بهدوء.
-2-
وهكذا توالت الانتكاسات لتتعاظم المرارة والشعور بالخيبة: صدر الحكم القضائي على الطغيان بشخص الرئيس السابق حسني مبارك ووزير داخليته، فإذا هو دون المأمول، لا سيما أنه قد برأ أركان ذلك النظام جميعاً، بمن فيهم نجلا مبارك، وضباط الشرطة المتهمين بقتل المتظاهرين.
ثم تجرأ المجلس العسكري، مستنداً إلى حكم أصدرته المحكمة الدستورية العليا في اللحظات الأخيرة ببطلان انتخاب الثلث من أعضاء المجلس النيابي، فقرر حل هذا المجلس تمهيداً للدعوة إلى انتخابات نيابية جديدة.
.. وبعدما انحصرت المعركة الرئاسية بين مرشحيْن أولهما إخواني والثاني من «الفلول» وفي عز احتدام هذا الصراع، تقدم المجلس العسكري ليعلن نفسه الحاكم المطلق، حتى لو تم إعلان فوز أي من المرشحين بالرئاسة… في انتظار انتخابات نيابية جديدة! ثم انه خول نفسه تعيين لجنة إعداد الدستور الجديد، مستولياً بذلك على صلاحيات رئيس الدولة والمجلس النيابي والحكومة معاً!
إذن، هو انقلاب عسكري بالكامل، يحاول قلب صفحة الثورة وتجاوزها وكأنها لم تكن، والتقدم بخطوة حاسمة نحو السيطرة المطلقة على السلطة في مصر.
وإذا كانت القوى السياسية في مصر، على اختلاف توجهاتها تحاول الآن أن تستعيد وعيها وأن تعود إلى مراجعة تجربتها بالنتائج البائسة التي انتهت إليها بعد سنة ونصف السنة من النزول إلى «الميدان» طلباً للتغيير، فإن النظام القديم قد أعاد صياغة نفسه متخففاً من أثقال بعض الرموز، وبالتحديد الرئيس المخلوع، ليكمل السيطرة المطلقة على البلاد، مجدداً، تحت عنوان «الإنقاذ»، أو حماية مصر من تداعيات الصراع الذي بلغ في الأسابيع القليلة الماضية ذروة الخطر.
لقد أفاد المجلس العسكري من موجة الخوف الشعبي الواسع الذي رافق الصعود المباغت للتيار الإسلامي، بشقيه، الإخواني والسلفي، والشبق الى السلطة الذي أظهره الإخوان، مسقطين التوقعات بأن يكونوا قد أفادوا من تجاربهم الغنية التي تراكمت طوال ثمانين عاماً من العمل السياسي، والمواجهات مع الأنظمة التي تعاقبت خلالها على حكم مصر.
أدرك المجلس أن الناخب المصري العادي قد وجد نفسه محاصراً بمرشحيْن لا يريد لأي منهما أن ينفرد بالسلطة، ولا أن يشتركا في حكمه الى أمد غير معلوم.
ولقد دلت نتائج الانتخابات النيابية أن أصوات الناخبين قد ذهبت بكتلتها العظمى إلى المرشحين الآخرين، ذوي الاتجاهات الوطنية – القومية أو الإسلامية المعتدلة، أو إلى الوجوه الجديدة المنادية باستمرار الثورة، بحيث أن مرشح الإخوان وكذلك مرشح «الفلول» أو «النظام المخلوع» لم يحرزا معاً أكثر من خمس أصوات من يحق لهم الاقتراع.
-3-
وكان الناخب يعبر بذلك عن رغبته في أن يكون التغيير شاملاً، بغير أن يفرض عليه المرشح الإسلامي كخيار أوحد، أو أن يتمثل البديل المتاح في العودة إلى نظام الطغيان عبر واحد من رموزه.
لقد فشل الإخوان، بسبب من شبقهم إلى الانفراد بالسلطة، في إنشاء شبكة من التحالفات مع قوى سياسية ذات شرعية وثقل في تمثيلها للميدان.. ثم لما فوجئوا بانقلاب المجلس العسكري عليهم انطلقوا يوزعون الوعود والتعهدات بأن يشركوا الجميع وبأن يؤسسوا لحكم ائتلافي، وتوالت عروضهم بنيابة الرئاسة وبمواقع أخرى في بيت القرار لمن استخصموهم من قبل واستبعدوهم واستهانوا بهم، متكئين على «تواطئهم» مع المجلس العسكري الذي امتد لأكثر من سنة، وحتى عشية الانتخابات الرئاسية.
وبالنسبة للعربي خارج مصر فإنه كان يواكب الثورة بقلبه وعقله معاً، وكان يستشعر بخطر انقسام الميدان، وكذلك بخطر الشبق إلى السلطة عند المجلس العسكري الذي تبدى واضحاً عبر دعمه احمد شفيق… وربما لهذا لم يفاجأ بمضي المجلس العسكري قدماً في إنجاز « انقلابه» تحت ستار العديد من البدع الدستورية، مفيداً من موقعه الحاسم في المرحلة الانتقالية وعجز الجميع عن مواجهته مباشرة، أو إرجاء هذه المواجهة إلى ما بعد إنجاز العملية الديموقراطية.
ويدرك هذا العربي أن «الكفاح دوّار» وأن المعركة لتحرير مصر من الطغيان بمختلف وجوهه ستمتد لفترة طويلة وستكون حافلة بالصعاب. خصوصاً أنه كان ولا يزال يتمنى ألا تتفجر الخلافات مواجهات بين الجيش وبين الميدان عبر شطب العملية الديموقراطية أو تقزيمها بمصادرة مسارها الطبيعي.
فمصر الثورة وميدانها، الذي شكل مصدر الأمل بغد عربي أفضل، لا يجادل احد في شرعية موقعها القيادي، ولن يكون من السهل تدجينها وإعادة المارد الى قفص الطغيان فيها.
لقد أمدت التجربة الرائدة للميدان في مصر الشعب العربي في مختلف أقطاره بالأمل، وأعادت إليه ثقته بقدرته على التغيير وحقه فيه.
ويأمل العربي خارج مصر أن تنتبه قوى التغيير فيها إلى ضرورة التلاقي على برنامج للتغيير، خصوصاً أن الميدان قد كشف مواقع الجميع في الداخل والخارج، فلم يعد ممكناً خداع الجماهير أو التحايل على أهدافها او شطب إرادتها التي عبرت عن ذاتها في ثلاث جولات انتخابية، كانت وبغض النظر عن الفائز والخاسر فيها – نموذجاً للحرص على الحقوق الديموقراطية للأطراف والقوى جميعاً. وبرغم الشوائب التي لحقت بالعمليات الانتخابية، وبينها ما بذل من ومال ومن «تقديمات عينية» للناخبين للتأثير على قرارهم، فإن المشاركة الكثيفة نسبياً، وحرص الجماهير على الحفاظ على سلمية الانتخابات وحصر المنافسة في المبارزة الكلامية والمجادلة القانونية وقبول الكل بالكل في الميدان.. كل ذلك قد أكد عمق الإيمان بالديموقراطية والتوجه المشترك إلى التخلص من الطغيان، والذي ضربه الشبق الى الانفراد بالسلطة الذي تبدّى واضحاً عند الإخوان، وشكل ذريعة لتقدم المجلس العسكري لتولي السلطة منفرداً متذرعاً بحصره على تجنيب البلاد الشقاق.
-4-
لقد أكد المصريون تمسكهم بمدنية الدولة، وقبول الكل بالكل، حتى وإن تشاطر بعض الطامعين بالسلطة فمكروا وخادعوا حتى انقلب السحر على الساحر.
لكن الميدان سيجمع من افترقوا عبر الصراع على السلطة، ولعل «الخصم المشترك» الذي نزل إلى الميدان بثيابه العسكرية، مكشوفاً، سيمهد لبناء تلك الجبهة الوطنية العتيدة المؤهلة لبناء مصر الثورة، والتحرر نهائياً- من قوى التعطيل والهيمنة ذات الطابع العسكري.
وإذا كان العربي خارج مصر يحفظ للجيش المصري دوره المميز في الحروب مع العدو الإسرائيلي، فإن تجارب حكم العسكر كانت فاشلة بمجملها، وبائسة، بل مدمرة احياناً بنتائجها على المجتمعات التي هيمنت عليها.
إن الأمل مرة أخرى في الميدان، على أن يتوحد في مسيرته وأن يؤكد انه في مستوى الطموح.. والاحتياج.
ومعركة الغد قد بدأت، فعلاً، من قبل أن يعرف الناس اسم الرئيس المقبل الذي لن يعني شيئاً في ظل الانقلاب الجديد الذي أنجزه المجلس العسكري في الساعة الأخيرة لما قبل انبثاق العهد الجديد.. بكل علاته.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية