طلال سلمان

مع الشروق ## الانتفاضات العربية.. بين «الميدان» ومنبر الأمم المتحدة

لم تصل الانتفاضات العربية بشعاراتها الثورية التي ملأت بها جماهيرها «الميدان» في العديد من العواصم والمدن والأرياف، إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك، ولم تتردد أصداء هتافاتها المدوية في قاعات الكلام في الجمعية العامة… بل لقد تبدى من ذهب باسمها إلى هذه المؤسسة الدولية، التي صار ينظر إليها كملحق لوزارة الخارجية الاميركية، وكأنه يخاطب أولاً وأخيراً أصحاب القرار في واشنطن، مع مراعاة أصول اللياقة مع كبار المسؤولين في الدول الأخرى ممن كان لا بد ان يلتقيهم.
ولعل الأنظمة الجديدة التي نسبت نفسها الى «الربيع العربي» كانت تتعجل مثل هذه اللقاءات مع أركان الإدارة الاميركية، ووزيرة الخارجية على وجه التحديد، لتطمئن الى ثبات مواقعها، وبالتالي «شرعيتها» في النظام العالمي الجديد.
أما الذين كانوا يعقدون الآمال العراض على حجم التحولات التي تمت فعلاً في البلدان التي أسقطت انتفاضات شعوبها أنظمة الطغيان فيها، فقد تيقنوا أنهم تسرعوا فاندفعوا مع تمنياتهم وتوقعاتهم أن تشهد الأمم المتحدة تظاهرة سياسية عربية تؤكد للعالم ان «العرب» قد استعادوا وعيهم، وأنهم في الطريق الى استعادة دورهم ورصيد أوطانهم في سياسات العالم… وربما بالغ البعض في توقعاته فافترض أن القيادات الجديدة قد تؤكد – عبر وجودها وخطابها واتصالاتها بمن يشبهونها في الطموح والتطلعات – القطع مع ماضي الارتهان للإرادة الاميركية، والتوكيد على أنها قد استعادت قرارها الوطني المستقل ووعيها بضرورة استعادة دورها الفاعل، لا سيما في القضية الفلسطينية، باعتبارها العنوان لقضايا المصير.
لم يصل الطموح بأحد، طبعاً إلى الافتراض بأنه سيشهد إعادة للحدث التاريخي الذي احتضنته هذه المؤسسة الدولية في مثل هذه الأيام من العام 1960 والذي كان فيه أقطاب دول عدم الانحياز، وفي طليعتهم الرئيس جمال عبد الناصر، يتصدرون المشهد، مؤكدين حقهم وجدارتهم بأن يكونوا أصحاب القرار في أوطانهم وقوى مؤثرة في القرار الدولي، لا سيما في ما يتصل بمعركة تحرير الشعوب ومساعدتها على بناء دولها المستقلة بإرادتها.. في مواجهة نزعة التسلط الاميركي.
في أي حال، فقد تهاوت التوقعات المتخيلة، بل التمنيات، امام تصاغر القيادات العربية التي ذهبت الى نيويورك كبديل ثوري من رئاسات ما قبل انتفاضات الميدان التي لما يتكامل إنجازها السياسي، ولما تنجب قيادات العهد الجديد في الأقطار حيث تم إسقاط الطغاة.
لم تكن «الثورة»، بما هي القطع مع سياسات عهود الطغيان، حاضرة لا في خطب قادة المرحلة الانتقالية، ولا في اتصالاتهم ولقاءاتهم ومباحثاتهم مع أقرانهم من المسؤولين في دول العالم المختلفة، ومع الإدارة الاميركية على وجه التحديد.
وكيف سيختلف الخطاب اذا كان «العهد الجديد» في الدول التي اسقط الميدان طغاتها، سيمد يده في طلب القروض والمساعدات والهبات، اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً وثقافياً، متعهداً التزام الثوابت السياسية «للعهد المباد» متوجهاً في طلب العون الى الإدارة الاميركية مباشرة، ومعها وعبرها الى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي… قبل الحديث عن الشؤون العسكرية.
كل ما اختلف في خطاب الخلف عن خطاب السلف ان التعابير الإسلامية قد أزاحت كلمات العروبة والوحدة وفلسطين وحركات التحرير، واستبدلتها بما يليق أن يقال في حضرة القيادة الاميركية… ولقد نال هذا الخطاب مباركة الإدارة الاميركية التي لا تفتأ تبدي إعجابها وتقديرها للدين الحنيف والرسول العربي، وإن أغضبها فأخرجها عن طورها ما حدث للسفارات الاميركية وبعض موظفيها في أكثر من بلد عربي كردة فعل على الفيلم الحقير… وهكذا اضطر بعض الذين رفعتهم الانتفاضات، ولو بالمصادفة، إلى موقع القرار، إلى تقديم الاعتذار العلني (هلا انتبهتم إلى أن بعض من ينسبون أنفسهم إلى «الربيع العربي» يقلدون الاميركيين حين يؤدون التحية للعلم الوطني؟!).
لم يختلف خطاب رموز الإسلام السياسي الذين تصدروا المشهد في المنبر الدولي، باسم الثورة، عن خطب أسلافهم: لا استحضار لقضية فلسطين بجوهرها، وبالتالي لا تغيير جذرياً في الموقف من إسرائيل. (وعلى الأرض يستمر تدفق النفط والغاز إليها وبأسعار مخفضة، مما يؤكد الحرص على معاهدة الصلح معها، في حين تتفجر الأزمات المعيشية المتلاحقة في مصر، وبينها ما يتصل بها بنقص النفط والغاز للاستهلاك المحلي).
لم يستطع قادة المرحلة الانتقالية في كل من مصر وتونس وليبيا ان يقدموا أنفسهم بوصفهم رموزاً لعهد جديد قطع – سياسيا – مع عهد الطغيان، واختط منهجاً سياسياً مختلفاً في الداخل كما في الخارج.
وكيف يمكن اعتماد منهج مختلف إذا كانت الأنظمة الجديدة تحاول تسويق خطها «الإسلامي» عبر التوكيد على «سلميته» وإعجابه بالتجربة الاميركية في الديموقراطية وحاجته الى واشنطن في الاقتصاد وفي التسليح وفي استجلاب المساعدات العربية، التي لا تأتي بغير قرار من الإدارة الاميركية؟!.
وإذا كان الرئيس المخلوع حسني مبارك قد ادّعى لنفسه دوراً مميزاً في السياسة الدولية، عبر التزوير غير المسبوق في الصورة الرئاسية الشهيرة، فإن الرئيس الآتي باسم ثورة 25 يناير قد تجنب مثل هذا الادّعاء، ولكن خطابه السياسي لم يختلف كثيراً عن خطب السلف في ما يتصل بالقضايا العربية عموماً، وفلسطين خصوصاً… مع الإشارة الى ان ما يتصل بالموقف من النظام السوري لم يكتمل في مبناه كما في مؤداه، الا في مؤتمر حزب العدالة والتنمية التركي في أنقره، الذي أراد منه رئيس الوزراء التركي اردوغان تظهير الملامح الأولى لحلف في المنطقة قاعدته إسلامية اللغة، وإن ظل التوجه فيه غربياً، وأميركياً على وجه التحديد.
مع ملاحظة شيء من الاختلاف في خطاب الإسلام السياسي العربي عن خطاب الإسلام السياسي التركي الذي يحمل مضامين إمبراطورية، تولى التعبير عنها في المؤتمر رئيس الوزراء وقائد حزب التنمية والعدالة رجب طيب اردوغان، مندفعاً إلى أبعد مما تعودناه من المنظر الإيديولوجي للعثمانية الجديدة احمد داوود اوغلو…فإن الحديث عن فلسطين، التي تمثلت بأحد قادة الإسلام السياسي في تنظيم «حماس»، لم يختلف كثيراً في انقره عنه في نيويورك (هل من الضروري الإشارة إلى أن بعض المدعوين كضيوف شرف على هذا المؤتمر، من لبنان، لم يكن لدعوتهم من مبرر إلا العداء للنظام السوري، وقد كانوا إلى ما قبل وقت قصير من أصدقائه المقربين ومن «ناصحيه» والمتبرعين بالدعوة له في بيئاتهم الطائفية… وعلى حساب فلسطين قضية وشعباً؟).
وإذا كان اردوغان قد أراد الاستقواء بشركائه في الشعار الإسلامي من المسؤولين العرب فإن ابرز هؤلاء قد افترضوا أنهم سيفيدون من اللقاء معه، وإلقاء الخطب الحماسية في مؤتمر حزبه، بما يستدرج المزيد من الرضا الاميركي، واستطراداً من دعم المال العربي…
فتغليب الإسلام السياسي على الهويات الوطنية – العربية هو واحد من الأهداف التي تحظى بدعم اميركي بل غربي، خصوصاً إذا ما اتخذ من الإسلام التركي نموذجاً.. وهو الإسلام الذي لا يرى في عضوية الحلف الأطلسي ما يحرجه، في حين أن هذا الإسلام ذاته – وبرغم غلبة الغرض السياسي على الدين فيه – لم ييسر لتركيا أمر الدخول إلى السوق الأوروبية المشتركة واستطراداً إلى نعيم الاتحاد الأوروبي.
كذلك فإن هذا الإسلام السياسي قد اضطر الى ابتلاع تهديداته لإسرائيل في أعقاب ضربها باخرة المساعدات لأهالي غزة المحاصرة، وتراجع عن تلويحه بمقاطعتها، في حين لم تتأثر العلاقات العسكرية بين الدولتين غربيتي المقاصد والمصالح وإن كانتا جغرافياً في الشرق، واحدة أصيلة فيه والثانية وافدة كقوة احتلال.
هل من الضروري الإشارة إلى أن مصر التي فتح «الميدان» أمامها أبواب العودة للعب دورها الذي لا غنى عنه في محيطها، العربي أساساً، والأفريقي ضمناً، وبالتالي الدولي، هي المؤهلة لان تكون في موقع القيادة، وإن كانت أوضاعها الداخلية واضطراب القرار فيها يمنعها من ممارسة هذا الدور؟.
…ومتى قصدت القاهرة للعب هذا الدور بالزخم الذي أمدها به «الميدان»، فلسوف تتأكد أن من تحاول الوصول إليهم عن طريق واشنطن سيندفعون في اتجاهها لأنها تملك مفاتيح الأمان لأوضاعهم المجافية لمنطق العصر، وأولها وأخطرها: الهوية العربية، قبل الحديث عن حقوق شعوبها عليها في الداخل.
ولا يكفي توجيه اللعنات ضد النظام السوري والمطالبة بإسقاطه كبطاقة انتساب الى عالم الثورة التي بشر بها الميدان، طريقاً الى استعادة الهوية ومعها الدور القيادي الذي فاتحته فلسطين، مع الوعي أن التقدم فيه سيصطدم بإسرائيل حتماً، وبالتأكيد فليس اللقاء المرتقب مع شيمون بيريز هو المدخل الى هذا الدور التاريخي الجليل.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version