تستطيع إسرائيل أن تحتفل، مطمئنة ومزدهية، بالذكرى الخامسة والستين لإقامة كيانها – بالقوة العاتية – فوق أرض فلسطين وطرد شعبها منها ليتوزع مجاميع من «اللاجئين» في «دول الجوار العربي» وأشتاتاً من الباحثين عن أي ملجأ في أربع رياح الأرض يمنحهم المأوى وفرصة تربية أبنائهم على حلم العودة.
وبرغم أن إسرائيل لا تنكر أنها أقوى من مجموع الدول العربية، عسكرياً واقتصادياً، وأعظم تقدماً منها في مجالات العلوم كافة، فإنها تواصل تعزيز قدراتها براً وبحراً وجواً، وها هي الغواصة النووية الرابعة تصلها من ألمانيا كهدية، بينما تكمل الولايات المتحدة بناء القبة الفولاذية التي تحميها من احتمال أي هجوم على المدن في الأرض المحتلة بصواريخ المقاومة التي قد تنطلق مجدداً من لبنان، كما حدث في صيف العام 2006.. أو من أية حدود عربية أخرى، رداً على أية محاولة لاجتياح جديد.
ثم إن «قضية فلسطين» تغرق في بحور النسيان، لا تستطيع السلطة المنشقة على ذاتها أن تدّعي أنها قد حفظتها، خصوصاً أنها أقيمت بقرار من خارج إرادة شعبها المشرد والمفقر و«المنبوذ» في ديار اللجوء، والذي يعامله أهل النظام العربي بامتهان يزيد في قسوته عن معاملة العدو الإسرائيلي.
أما الشعوب العربية المثقلة بهموم عيشها، والمقهورة بأنظمة الطغيان التي قام معظمها أصلاً على أكتاف القوات المسلحة وبذريعة العودة الى ميدان الصراع مع العدو الإسرائيلي، فهي تجاهد من أجل التغيير.. يتفجر غضبها انتفاضات وثورات عفوية ولا قيادات مؤهلة ولا برامج محددة ولا خط سير واضحاً في اتجاه النظام البديل المنشود.
أليس لافتاً أن يغيب أي ذكر لفلسطين عن هتافات الملايين المحتشدة في الميادين، إلا نادراً، وان تختفي الإشارة إلى شعبها المشرد أو إلى قضيتها المقدسة، ويغَيّــــــب – بالتالي – الاحتلال الإسرائيلي وجرائم القهر بالسجن المؤبد للمجاهدين… والأخطر: القفز من فوق مسألة الاستيطان والتوسع المتمادي في بناء المستعمرات على أراضي من تبقى من أبناء فلسطين فيها.
حتى غزة، التي ينفرد الإخوان المسلمون «بحكمها» ويمنعون مشاركة «إسلاميين» آخرين فيها، نراها تسقط قصداً، وليس سهواً، من البيانات والخطابات والمواعظ، بما فيها خطب الجمعة، في الدول التي أسقطت الميادين الطغاة فيها وتقدمت تنظيمات إسلامية الشعار نحو السلطة تشارك حيث يتعذر الانفراد بها أو تحاول احتكارها حيث تفترض أنها جاهزة بما يكفي لطرد القوى الأخرى من جنتها.
وإذا ما افترضنا الصحة والدقة في الذرائع التي يُسوقها الإسلاميون في مجال تبرير «حقهم» في الهيمنة على السلطة الجديدة بعد إسقاط الطغيان والقائلة بأن الجيوش التي اقتحمت القصور وأسقطت حكام هزيمة 1948قد انشغلت بالحكم عن قضية فلسطين كما عن قضايا الشعب عموماً، فإن ما يطرحه الإسلاميون المتقدمون نحو «السلطة الثورية» لا يأتي على ذكر فلسطين، ولا يحدد موقفاً واضحاً من العدو الإسرائيلي الذي أدام احتلاله لأراض عربية، بعضها في مصر (سيناء في «حماية» المراقبين الدوليين الذين يختارهم من جنود دول صديقة له) وبعضها في الأردن، فضلاً عن الجولان السوري، وبعض الأرض اللبنانية.
ويمكننا أن ننسى أو نتناسى بعض التصريحات التي صدرت عن قادة إسلاميين والتي تتسم بالحياد والتلطي خلف «معاهدة السلام» والحرص عليها وكذلك على اتفاق تزويد إسرائيل بالنفط والغاز المصري.
لا بأس، هنا، من عودة سريعة إلى تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي.
منذ البدء قال الإسلاميون- عموماً – إن فلسطين قضية إسلامية بقدر ما هي إسرائيل قضية يهودية. وكان ذلك المنطق المغلوط يصب في مصلحة ادّعاءات الحركة الصهيونية، ويخرج من حومة الصراع بعض مكونات الأمة وهم المسيحيون بمختلف طوائفهم، وهم من كانوا وما زالوا في صلب النضال والمقاومة، فكراً وجهاداً بالسلاح.
ثم إن هذا المنطق يتهاوى أمام واقع أن المليار مسلم المنتشرين في العالم ليسوا شعباً واحداً بل هم شعوب في دول عدة، بعضها لا يعرف من فلسطين وعنها إلا ما يتصل بالإسراء والمعراج والمسجد الأقصى، وبمعنى القداسة الدينية وليس بالدلالة السياسية.
ليس من التجني القول إن «الإسلاميين» عموماً قد تعاملوا مع الحركة القومية العربية وكأنها أعدى الأعداء، وأن مواجهتها وإلحاق الهزيمة بها يجب أن تكون لها الأولوية على مجابهة قوى الاستعمار عموماً وإسرائيل على وجه الخصوص.
وانه لأمر غير واقعي ان تحال فلسطين على المسلمين، سواء بتنظيماتهم السياسية أو بهيئاتهم الدينية وهي مجتمعة لا تشكل قوة فعلية لا في السياسة ولا في الحرب، وإن كانت تزعم أن الدين هو المرجعية الفعلية للتحرير لا الوطنية أو العروبة ولا حلم الوحدة العربية بل هو وهم الوحدة الإسلامية.
ولقد اكتسب منطق «الإسلاميين» بعض الشرعية عبر انكشاف ادّعاءات أنظمة الطغيان عن صحة تمثيلها للحركة القومية العربية.
لكن ذلك لم يضف كثيراً إلى شرعية اعتماد «الإسلام» سلاحاً للتحرير.. خصوصاً أن الإسلام إسلامات متعددة ليس فقط بعدد الفرق والمذاهب والشيع وإنما بعدد الأغراض والأهداف السياسية التي تختلط فيها العصبية الدينية مع الإصرار على تطمين الغرب عموماً وأميركا خصوصاً عن استعداد الإسلام لحوار الأديان مع المسيحية شكلاً ومع اليهودية أو إسرائيل عملياً.
وإذا ما استثنينا تجربة جمال عبد الناصر، بكل ما لها وعليها، فإن سلوك الأنظمة العسكرية التي استولت على السلطة في أكثر من بلد عربي في ظل شعارات التحرير والتقدم، رافعة الراية العربية، إنما قدمت خدمة ثمينة لكل خصوم العروبة في الداخل ولكل أعداء النهوض العربي والتقدم في اتجاه التكامل، اتحاداً أو وحدة، في الخارج.
من الضروري الاعتراف أن بعض أنظمة الطغيان التي حكمت بالشعار القومي قد أهانت الشعار وحقرته… فالعسف والقهر واحتكار السلطة، والادّعاء الكاذب بتمثيل العمال والفلاحين وسائر الفئات المسحوقة في مختلف الأقطار العربية، كل ذلك قد أعاد الاعتبار إلى الأنظمة الملكية وصورها ارحم بالشعوب التي حكمتها من «الجمهوريين» المزركشين بشعارات الاشتراكية والحرية والوحدة لمخادعة الرعايا والتحكم بحاضرهم ومستقبلهم.
لقد أساءت أنظمة الطغيان بشكل خاص إلى هدف تحرير فلسطين، وبالتالي الى شعار الوحدة، أكثر من خصومها وأعدائها بالمصلحة، وقدمت خدمة جليلة لكل أعداء الأمة في الداخل والخارج، وفي الطليعة منها إسرائيل ومشاريع توسعها على حساب فلسطين – القضية والشعب، والهيمنة الاميركية وأنظمة العسف الملكية.
وها هي تلك القوى المعادية تأتلف وتتكاتف لمنع الثورات التي تتفجر بها الأرض العربية من التكامل والاندفاع إلى مهمتها المقدسة في التحرر والتحرير بغير تردد او معوقات.
لقد تنامت النزعة إلى الاستئثار بالسلطة عند الإسلاميين بحيث باتوا يخرجون من صدام مع مطالب التغيير إلى مواجهة من هم – موضعياً – في موقع حلفائهم.
وإذا كان إسلاميو تونس قد تصرفوا بدهاء وارتضوا مشاركة القوى السياسية «المدنية» في السلطة الجديدة، فإن إسلاميي مصر يصرون على احتكار السلطة بمواقعها المختلفة إلى حد التصادم مع «المجلس العسكري» الذي ذهب كثيرون الى حد اتهامه بالتواطؤ معهم بدءاً بالتعديل الدستوري المنقوص وصولاً الى انتخابات مجلس العشب وبعدها انتخابات مجلس الشورى.
أما إسلاميو سوريا، الذين يموهون حركتهم بشعارات مبهمة لا يستطيع شركاؤهم في «المجلس الوطني» رفضها وان كانوا يستريبون فيها، ويتركون لعلاقتهم الوطيدة مع الحكم في تركيا، وهو «إسلامي مستنير»، أن تُطمئن القلقين على مستقبل الدولة العلمانية في سوريا، فضلاً عن تهدئة روع الأقليات غير الإسلامية عموماً وغير السنية خصوصاً، الى أن النظام المقبل سيكون علمانياً، بدليل برنامجهم الجديد الذي أعدوه على عجل مقتبسين الكثير من النصوص التركية للعلمانية السورية وبما يرضي أصحاب القرار الكوني في واشنطن ولندن وباريس.. وربما في موسكو وبكين أيضاً، من دون أن ننسى إسرائيل، التي تقرر انها علمانية حتى وهي تعلن عن ذاتها كدولة يهود العالم.
لكن هذا التطمين لا يكفي لاكتساب تأييد وبالتالي دعم بعض الدول العربية التي تحكم بالشعار الإسلامي.
وليس مؤكدا أن تكون زيارة مفتي الديار المصرية خطوة في هذا السياق، ولكن لا بد من التوقف أمام التبرير الذي أعطاه المفتي من أنها زيارة للمسجد الأقصى فحسب ولم يقدم جواز سفره لشرطة الاحتلال الإسرائيلي..
(للمناسبة هل تحمل جوازات سفر المسؤولين المصريين مع الرئيس الأسبق أنور السادات أختام الأمن العام الإسرائيلي، وماذا عن جوازات سفر الوزراء عموماً والخارجية خصوصاً، خلال زياراتهم المتعددة للكيان الصهيوني؟!).
باختصار: إن للإسلام السياسي وجوهاً شتى، بينها انه يقدم الدين على الهوية الوطنية، وبالتأكيد على الهوية القومية.. وربما تشكل هذه الحقيقة مدخلاً لفهم تحفظات الوطنيين والقوميين عموماً، فضلاً عن أتباع الديانات الأخرى (او المذاهب الإسلامية الأخرى) في مصر وسائر الأقطار العربية، وفلسطين على وجه الخصوص، على شعارات الحكم الإسلامي الذي تبدت بعض تجلياته في الميدان ثم أمام وزارة الدفاع في القاهرة، وأخيراً وليس آخراً في زيارة الاعتذار المدوي إلى السعودية.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية