… وجاء زمن «الجهاد الأفضل»: أفرغ شباب مصر «الميدان» بعدما أنجزوا البند الأول من المهمة المقدسة التي انتدبوا أنفسهم لتحقيقها بإسقاط رأس النظام الدكتاتوري الفاسد المفسد، وفتحوا الباب أمام مصر كي تعود الى وعيها بذاتها وبدورها الذي لا يعوضها فيه غيرها.
تفجر الفرح عارماً داخل مصر وخارجها، قبل ان ينتبه شباب الميدان الى انهم لم يستعدوا حقيقة لما بعد إسقاط رأس النظام، ثم صدمهم واقع أن النظام قد افتدى نفسه برأسه فاستمد بذلك قوة إضافية تكفي لاستيعاب انتفاضتهم ومخادعتهم ومساومتهم على بديله الذي لم تكن صورته حاضرة لا في أذهانهم إلا كأمنيات، ولا على الورق إلا كعناوين وأفكار واقتباسات لا ينظمها سياق ولا هي تصلح برنامج عمل للغد.
لم يكن شباب الميدان حزباً واحداً، ولا مجموعة احزاب ببرنامج موحد، ولم يكونوا يعرفون تماماً كيف تكون الخطوة التالية، خصوصاً أن المجلس العسكري قد تدخل فحصر التغيير برأس النظام، ولم يكونوا موحدين وجاهزين لمواجهة هذا «الرئيس المؤقت» الذي يحفظ له المصريون تقديراً عالياً باعتباره جيشهم الوطني وحصن دولتهم الحصين.
وكان «الميدان» قد جمع شباب ثورة مصر مع من يختلفون معهم فكراً وممارسة، فلا يجمعهم تصور مشترك لنظام الغد والطريق إليه. وتقبلوا الأمر باعتبار ان ثورة الشعب تتسع لقوى متعددة التوجه، فيها الوطني والإسلامي والتقدمي والليبرالي والسلفي، فيها الوفدي والناصري والساداتي من «بواقي» العهود الماضية، والكل يرفع شعار إسقاط النظام وان اختلفت صورة النظام البديل من مجموعة الى أخرى. على انه ظل واضحاً ان الإسلاميين، والإخوان تحديداً، ينفردون بأنهم يملكون تصوراً كما يملكون «خريطة طريق».
ونتيجة «لواقعيتهم» فقد ابتلع الإخوان موقفهم التقليدي وغير الودي من الجيش واشتباههم بموقف المؤسسة العسكرية منهم، واقتربوا منها ليطمئنوها مميزين أنفسهم عن رفاق الاضطرار في الميدان، في حين كان شباب الثورة يندفعون مع مبدئيتهم الى حد الافتراق ثم التعارض فالمواجهة مع المجلس العسكري الذي بات «سلطة بديلة « لم يروا فيها افتراقاً الى حد التناقض مع النظام وقد غدا الآن «رأسه» ومصدر القرار فيه.
يوماً بعد يوم، إذن، كانت تتسع الفجوة بين الذين تلاقوا في الميدان على غير موعد، ومن دون الاتفاق على الخطوة التالية… ثم تبلورت الخلافات فإذا هي تتجاوز دور المجلس العسكري ومشروع الدستور الجديد الذي اشتم فيه شباب الثورة انحيازاً الى الإسلاميين، ومدة الفترة الانتقالية وموقع الانتخابات النيابية ثم الرئاسية فيها.. وفضلاً عن «الحكومة» التي سرعان ما تبين انها مجرد ستارة تعفي المجلس العسكري من مواجهة المسؤولية ومن ثم «الشباب» مباشرة، ولكنها تلتزم بمرجعيته بوصفه مصدر الشرعية. وفي أي حال فليس أسهل على المجلس العسكري من صرف حكومة والمجيء بأخرى مانحاً «الشباب» وهم الانتصار، بينما القرار باق لصاحب القرار.
[[[[[
ذلك عن «الماضي» فماذا عن المستقبل لا سيما بعد الانتخابات النيابية التي أهلت الإخوان المسلمين لدور مقرر في إعادة بناء السلطة بمواقعها الحاكمة الأساسية؟
إن أسئلة كثيرة تطرح على هؤلاء العائدين وقد امتلأوا بروح الثأر من الماضي، والذين «تواضعوا» فارتضوا ان يظلوا- غالباً- في الصفوف الخلفية من الميدان، بينما اندفعوا يعملون بتخطيط دقيق للمواجهة الأولى عبر الانتخابات النيابية.
إنهم الآن أمام امتحان خطير لا يكفي لاجتيازه المطالبة بتعويضهم سنوات الاضطهاد والإبعاد والتهميش في العهود السابقة… فكل الشعب، بفئاته وأحزابه وتنظيماته جميعاً، السياسية والنقابية، قد دفع ضريبة الدكتاتورية والقمع والفساد من خبزه وحريته وحقه في مستقبل أفضل. لقد افسد نظام الفرد الواحد مسلحاً برصيد القوات المسلحة، السياسة والاقتصاد، القضاء والتعليم، الأحزاب والحركة النقابية والجمعيات الأهلية. باع القطاع العام للسماسرة والمشبوهين والأجانب وأهل الذهب الأسود، وشرد الكفاءات العلمية والمهنية. أساء الى الدين فوظف المؤسسة الدينية لتبرير دكتاتوريته وانحرافه الوطني، وبين العناوين الفاقعة لهذا الانحراف الصلح مع إسرائيل وانعزال مصر عن محيطها العربي، والذي بلغ في حالات مشهودة حد الانحياز الى العدو الإسرائيلي في حربه على الشعب الفلسطيني (الهجوم على غزة) كما في حربه على لبنان (تموز ـ يوليو 2006).
ثم إن سنوات السجن والاضطهاد ليست ـ بحد ذاتها – شهادة جدارة باستلام السلطة، وان كانت تصلح أن تكون مصدراً لمحاسبة السلطة التي أمرت بالقمع مرتين: مرة لأنها تجاوزت حدود العدل في أحكامها فجعلت أعضاء التنظيم اقرب الى الضحايا منهم الى المتورطين في عملية انقلابية تستهدف إسقاط النظام بالقوة، ومرة ثانية لأنها كشفت ـ عبر تعسفها ـ عدم إيمانها بالديموقراطية، ثم أنها اتخذت من حركتهم ذريعة لتبرير تعميم القمع على كل من يعترض على عسفها، سواء أكان شيوعياً او وطنياً او إسلاميا او صاحب رأي مستقل.
كذلك فإن الكرة الأرضية قد دارت بالناس عموماً وبالإخوان المسلمين ضمناً دورات عديدة فاختلفت مواقع الشمس ومصادر التوجيه. سقطت معسكرات عظمى كانت ترتكز الى «عقائد الكفر والإلحاد».. وقد كان لبعض المجاهدين باسم الإسلام شرف إطلاق الرصاصات الأخيرة على أخطر تلك المعسكرات (الاتحاد السوفياتي) في أفغانستان. ولعل تلك الواقعة كانت ذروة التحول في توجهات التنظيمات الإسلامية والتي جعلتها في موقف الحليف المركزي للمعسكر الآخر، الاميركي، الإمبريالي: «مصاص دماء الشعوب» ـ سابقاً – فلما انقلب اولئك «المجاهدون» على الصديق والراعي الاميركي الجديد بعملية البرجين في نيويورك بات على الحركة الإسلامية ذات التاريخ النضالي ضد الإنكليز، بحسب أدبياتها، ان تعتمد التقية، فتنكر أية صلة لها بتنظيم القاعدة، قبل أن تستجيب الى اليد الممدودة إليها للتعاون بشرط التبرؤ من ماضيها «الإرهابي» والجهر بإيمانها المستجد بالديموقراطية ليتم اعتمادها ـ أميركياً- بين قوى التغيير الهادف الى التخلص من الدكتاتوريات.
إذن فنحن أمام نسخة جديدة من الإخوان المسلمين تحاول التبرؤ من ماضيها «الإرهابي»، وتؤكد هويتها الجديدة على المنابر الرسمية في واشنطن ولندن وباريس والحلف الأطلسي، الذي ستأخذه النخوة فيهب لنجدة المؤمنين في ليبيا ومساعدتهم على التحرر من دكتاتورية معمر القذافي. ولقد توالى على تلك المنابر أبرز قادة الإخوان المسلمين في تونس وليبيا، في حين اكتفى الإخوان في مصر بلقاءات ربما تكون على مستويات أدنى ولكنها فعالة ومؤثرة في قرار التغيير الى حد أنها قد ابتكرت لها التسمية على الطريقة الاميركية، فإذا هو «الربيع العربي».
ومن دون قصد الإساءة الى من اعتمد هذا التعبير لوصف الانتفاضات من أقطار الوطن العربي فإن هذه التسمية لم تكن «عربية» ولم يكن للعرب أي دور في ابتداعها وإن تبنتها العديد من الدوائر والجهات والتنظيمات وحتى الدول، لا سيما حيث نجحت الانتفاضة في إسقاط أنظمة الطغيان.
المفارقة ان العديد من القادة الجدد الذين استولدهم «الربيع العربي» ليسوا شديدي الإيمان بالعروبة، بل هم يعتبرونها بدعة وكل بدعة ضلالة، مع ذلك فهم يتقبلون التسمية الأميركية وينكرون الهوية العربية لبلادهم ومن ثم لانتفاضة شعبهم العربي.
يتصل بذلك ان الذين وصلوا الى السلطة او يتقدمون في اتجاهها في أقطار عربية عدة قد أسقطوا فلسطين من أدبياتهم، وإن حرصوا على استبقاء المسجد الأقصى، لأسباب تكتيكية ولتأكيد إسلامهم على حساب عروبة القضية والبلاد وأهلها الفلسطينيين… بل إن بعضهم ذهب أبعد من ذلك فكاد يجهر بنبذه العنف والتسليم بوجود إسرائيل والالتزام بمعاهدات الإذعان المبرمة معها.
وليس بغير دلالة ألا تصدر كلمة واحدة عن أي قيادي من قادة الحركة الإسلامية في أي قطر عربي أسقط «الميدان» الطاغية فيه، أو أنه قارب إسقاطه، تؤكد الالتزام بالحد الأدنى من التضامن العربي، في حين أنه ليس أكثر من التصريحات والبيانات التي تؤكد الصداقة والشراكة في الأهداف مع دول الديموقراطية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية.
[[[[[
لقد ربح الإسلاميون في بعض البلاد العربية جولة مؤثرة، بأفضال الدكتاتوريات التي كانت قائمة والتي طالما تاجرت بالعروبة والقضية الفلسطينية في حين أنها لم تقدم لأهل القضية إلا النصائح بقبول المفاوضات طريقاً الى استعادة أي جزء من أرض فلسطين المحتلة.
لا بأس. لقد انكشف الغطاء، وبات الصراع مكشوفاً بين القوى الوطنية التي ابتدعت الميدان وجعلته مصدر القرار بالثورة وبين الإسلاميين الذين يملكون الخبرة والقدرة على حصاد الأصوات في المواسم الانتخابية بأساليب لا يتقنها الثوار.
وهذه جولة أولى من الصراع، في انتظار ان يبلور شباب الثورة برنامجهم وتنظيماتهم التي جمعها الميدان لإسقاط الطاغية ثم فرّق بينهم عدم الاتفاق على ما بعد ذلك: أي الولوج الى عملية بناء النظام الجديد الذي يلبي طموحات الشهداء.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية