تطل علينا السنة الجديدة، 2016، مغسولة بدمائنا.. فلقد فاضت جراحنا عن السنة المنصرمة، 2015، التي اتسعت فيها رقعة الحروب بيننا وعلينا، حتى طاولت أنحاء أخرى من العالم، منذرة بمسح التاريخ الذي عشناه، وعجزنا عن صياغته بما يلائم تمنياتنا. لقد خرجنا من هويتنا الجامعة وبتنا أشتاتاً من المقتتلين بمعطيات الماضي على باب المستقبل، بينما حاضرنا معلق على فوهات البنادق وصواريخ الطائرات التي تقصف هوياتنا وبيوتنا الموروثة التي كانت تحمل بصمات أهلنا التي بنوها، وتكتنز بأحلامنا في غد أفضل.
هل انتهت سنوات الضياع التي خلطت المعارضة المشروعة لأنظمة الاستبداد ومشاريع المنظمات الإرهابية التي تحاول إرجاع التاريخ إلى الخلف بأقوى أسلحة التقدم العلمي؟
هل انتهى زمن التشقق إلى حد التصادم بين الوطنية والقومية والتقدمية وبين الإسلام السياسي، بما شوه الغد وهدم الطريق إليه؟
هل تمَّ العثور على تصوُّرٍ للغد من خارج اغتيال الهوية وتحقير الماضي وتجاوز الحاضر بذريعة بناء المستقبل بمزيج من الخرافة والوهم والتطلع إلى الآخر الذي كان عدواً فصار ـ مع الأيام ـ خصماً، ثم حوله سقوط احترام الذات إلى مثل أعلى نحاول تقليده فنخسر هويتنا ولا نصيره؟
لنعترف أننا في حالة عجز عن تصور مستقبلنا القريب، في أقطار المشرق العربي أساساً، ثم في الأقطار التي يحجزنا عنها العدو الإسرائيلي ويقيم بيننا وبينها أسواراً من الدماء والقطيعة المصفحة، قبل أن يصل إلينا الإرهاب بالجاهلية تحت قيادة «الخليفة» السفاح، فإذا نحن أشتات من القبائل والعشائر وشعوب ما قبل التاريخ، ليس بيننا ما يجمع ويقرب ويوحد ولو بالتمني.
من يستطيع أن يتخيل سوريا الغد: هل تكون دولة واحدة بعاصمة وحدتها، دمشق، أم ينفرط عقد شعبها إلى «مكونات» و «هويات جزئية» عنصرية أو جغرافية، فيقال عن السوريين إنهم خليط من الشوام والحلبيين والحمامصة وأهل الساحل وعشائر الشرق التي تنتمي إلى «بلاد الشام» بغير تحديد…
هذا قبل التفصيل الذي يباعد بين السرياني والكلداني، يستوي في ذلك الكاثوليكي والأرثوذكسي وبين الكردي والأزيدي، ثم يفصل هؤلاء جميعاً عن العرب بدواً وحضراً، سُنة وإسماعيليين وعلويين وشيعة؟
ومن يستطيع أن يطمئن إلى مستقبل العراق كدولة و «الحروب» التي شهدها وما زال يشهدها قد شطرت شعبه إلى قوميتين مركزيتين: عرب وأكراد، ثم شطرته مرة أخرى إلى طائفتين متباعدتين بل ومصطرعتين على السلطة إلى حد الحرب التي لا يُنجي منها إلا التقسيم ولو عبر الفيدرالية، فتكون ثمة دويلة شبه مستقلة في شمال الشمال للأكراد بحماية دولية تجمع الشرق والغرب بينما يستقل «السنة» في «الغرب» والشمال الغربي في إقليمهم، والشيعة في إقليمهم الممتد بين الشرق والجنوب على أن تبقى بغداد عاصمة الدولة المركزية مع اعتراض سني ضمني بسبب الزحف الشيعي الذي حوّل السنة إلى «أقلية» فيها…
… وها هي «المكرمة» السعودية قد شقت اليمن طائفياً ومذهبياً وجهوياً، فإذا الشوافع يناهضون الزيود الشيعة على حقهم في الرئاسة الأولى، وإذا أهل الجنوب يريدون العودة إلى «دولتهم» التي كان لا بد أن تسقط لأنها لا تملك مقومات الحياة… مع احتمال أن «ينشق الشرق» – أي حضرموت ـ بتأثير المال السعودي أو يطالب بوضع خاص تحت حماية السعودية، لكي يوفر لها ميناءً مباشراً على بحر العرب يصلها بالمحيط الهندي ويسهل بالتالي اتصالها البحري بالمحيط الأطلسي، عبر بحر العرب، من دون اضطرار للمرور باليمن وبما يقصر المسافة على ناقلات النفط فيتم الاستغناء عن الخليج إلا كمساحة للنفوذ السياسي والهيمنة على «الدول» القائمة على شاطئه العربي.
وأما الخليج العربي فتكاد المغامرات السياسية تضيّع دوله، لا سيما في ظل محاولات السعودية أن تلعب دور «القائد» العسكري فضلاً عن النفطي وبالتالي السياسي… وها أن مغامرة «الأمل» في قتال اليمن قد أجبرت دول الخليج على ارتداء البزة العسكرية ودفع طياريها ومن ثم بعض النخبة من جيوشها إلى غزو تلك البلاد التي لم ينجح الغزاة عبر التاريخ في إحتلالها… ومن احتل بعض أرضها الوعرة، ولو إلى حين، دفع الثمن باهظاً من حياة جنوده، ومن ميزانية دولته.
هذا فضلاً عن مليارات الدولارات التي ذهبت هباءً منثوراً في حملة عسكرية لم يكن لها ما يبررها، ولا يمكن أن تستوي نتائجها السياسية مع كلفتها الثقيلة، بشرياً ومادياً وسياسياً.. وهذا هو الأخطر!
فليس مطلوباً من السعودية إظهار قوتها العسكرية الجبارة ليكون لها دور في الحياة السياسية العربية المعاصرة، وذلك أن «النفط أصدق إنباء من الكتب».. ثم إن المملكة المذهبة لعبت على امتداد الثلاثين عاماً الماضية دوراً سياسياً مهماً في كل من مصر وسوريا ولبنان، فضلاً عن الخليج العربي وصولاً إلى اليمن ذاتها، وهو قد حقق لها رصيداً ممتازاً من المؤكد أن الحملة العسكرية على اليمن قد ذهبت بالكثير منه.
باختصار لقد عاد أهل النظام العربي بالعرب إلى الجاهلية فإذا هم قبائل وعشائر ببطون وأفخاذ، وإذا هم أتباع أديان عديدة بعد تشطير الواحد إلى مذاهب وشيع وبدع ثم تتويجها بالخلافة الداعشية التي قررت إعادة نشر الدين الحنيف بالمذابح الجماعية.
ومع انطواء مصر على ذاتها وقصورها عن لعب دورها القيادي وضغط كلفة النمو وتلبية الاحتياجات الطبيعية لشعبها تزايدت المحاولات لاسترهان القاهرة بالقروض والهبات و «الشرهات»، وتحييدها إذا ما تعذر كسبها كحليف وتوريطها عسكرياً كجيش تابع ينفذ خططاً لم تعرض عليه مسبقاً ويخوض معارك بل حروباً لا مصلحة له فيها، في حين أن العدو الإسرائيلي لا يفتأ يحاول استرهان مصر، تارة بالغاز وطوراً بالاكتشافات النفطية الجديدة، ودائماً بتسهيل مرور العصابات المسلحة إلى سيناء… هذا فضلاً عن تحديها يومياً بإجراءات التضييق التي تصل إلى حد القتل اليومي للجيل الفلسطيني الجديد الذي لم يجد ما يواجه به عدوه الإسرائيلي إلا سكاكين المطبخ ومحاولات دهس جنود الاحتلال في الشوارع والطرقات الضيقة داخل المدن والقرى الفلسطينية.
ولعل الوضع الفلسطيني الراهن هو أعمق الفواجع إثارة للحزن حتى الوجع الممض… فهذا الشعب المجاهد يقاتل كأفراد، كصبايا وفتية وشبان لا يملكون من السلاح، في مواجهة عدوهم المدجج بأخطر أنواع السلاح وأشدها تدميراً إلا السكاكين ومحاولات الدهس بالسيارة أو التسلل لاصطياد واحد من جنود العدو في عتمة زقاق في بعض مدن الضفة وقراها.
وأما لبنان، لكي ننتهي من «المشرق» فإنه يعيش وضعاً معلقاً: دولته مقطوعة الرأس مشلولة الحكم ومجلس النواب فيها في عطلة دائمة، والنفايات تدور من أجل أن تجد مطمراً… وآخر ما أبتُكر من حلول أن يتم تصديرها إلى «بلد» مجهول في القارة المظلومة بفقرها وانقساماتها، أفريقيا، مقابل كلفة باهظة يدفعها المكلف اللبناني.
تبقى الدول العربية في الجانب الآخر من الوطن العربي الكبير، انطلاقاً من مصر وانتهاء بموريتانيا، وهذه تحتاج إلى حديث آخر، يميز بين الدول التي تشكو الضعف والوهن ونقص الموارد والإمكانات، وتلك التي تفيض إمكاناتها عن قدراتها ولكنها مضيّعة.
فمصر تجتهد لحماية أمنها وقدرتها على التقدم من فقرها،
وليبيا تضيع ثروتها الخرافية ووحدة كيانها في سقوط دولتها والعجز عن إعادة بنائها،
والسودان الفقير أصلاً يحاول ترميم عجزه بتأجير عسكره للسعودية في غزو اليمن،
أما تونس فقد تأخر انفجار الصراع بين قواها السياسية، وتمت معالجته بالمسكنات أي بالتسويات في السنوات القليلة الماضية، ولكن يبدو أن هذا العلاج قد حمى «المؤقت» من الصيغ السياسية، وبالتالي حمى «الدولة».. وعساه ينفع في منع الانفجار.
وأما الجزائر فينذر الوضع القلق فيها والمرهون بصحة رئيسها عبد العزيز بوتفليقة بالخطر، خصوصاً إذا ما رفع الجيش، لسبب أو لآخر، يده عن مفتاح التأمين.
فأما المغرب فتجري اللعبة السياسية فيه تحت عمامة أمير المؤمنين، وهذا قد حماه في الماضي والمرجّح أن يحميه الآن..
وأما موريتانيا فمرتاحة في ظل النسيان،
تنشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية