أخيراً: صار الشارع في المدن العربية والبلدات والأرياف، للناس.. كل الناس، العمال البسطاء والمثقفين، أصحاب المهن والموظفين، أبناء البيوتات والرعاع، الأطباء والمهندسين والمحامين والذين على باب الله.
لم يعد الشارع للشرطة والفراغ المزدحم بالعابرين ومواكب السلطان.
فجأة صار الشارع، مصدر القرار.
ولكن هؤلاء الذين نزلوا اليه، على حين غرة وبغير اتفاق مسبق، لم يكونوا يحلمون، بل كانوا يريدون التغيير مع نقص في الثقة بأنهم قادرون على اتخاذ مثل هذا القرار وتنفيذه.
…فهم ليسوا واحداً، وليس اجتماعهم دليل اتفاق على ما بعد لقاء المصادفة. لا بد من أن يتعارفوا. لا بد من ان يناقض بعضهم بعضاَ لاكتشاف المشترك والمختلف عليه وحدود الاختلاف.. فلا هم يأتون من ماض سياسي واحد، ولا في أذهانهم صورة محددة للخطوة التالية، والأخطر أن الوقت لم يتح لهم فرصة النقاش تمهيداً للاتفاق حول المستقبل. ثم أن البعض منهم يختزن تجربة طويلة كان لها منطلقها الفكري وكان لها سياقها العملي في مواجهة نظام السلطان، بالمهادنة والمواجهة، بالسجن والنفي والاسترضاء بالنيابة والمشاركة الهامشية… في حين أن البعض الآخر يأتي مثقلاً بقراءاته وأحلامه للقفز الى الذرى الديموقراطية بإرادة «الميدان» معززاً بإسناد الديموقراطيات الكونية بزعامة الإدارة الاميركية.
من قبل، وفي الماضي القريب، كانوا ينزلون الى الشارع بالعاطفة، مرة، وبالأمر مرة ثانية: تنزلهم فلسطين في تظاهرة غضب على تقاعس أنظمة السلاطين وجبنها وعجزها عن مواجهة الاجتياحات الإسرائيلية التي تخطت القدس والضفة والقطاع الى عواصمهم ذاتها، بل وإلى ما خلف العواصم وفوق الدولة.
أما المرة الثانية فحين ينزلهم السلطان في تظاهرة تأييد له ضد «الآخرين»، دولاً أو أنظمة متآمرة، او جهات مشبوهة ربما كانوا «هم» تلك الجهات، فيها او معها، في ذهن السلطان!
الى أين من هنا؟
ذلك كان السؤال المفجر، بعد أن افتدى النظام نفسه برأسه!
أما أهل النظام فقد صادروا الميدان: ها قد نجحتم فأسقطتم الطاغية! مبروك! أنجزتم مهمتكم المباركة، فارتاحوا ودعونا نستنقذ الدولة! الدولة ضرورة حياة بل هي مصدر الحياة. سنحمي نحن الدولة، واذهبوا فاتفقوا على نظامكم العتيد!
أفرغ الشارع من أهله في العديد من العواصم العربية، فاحتله الجدل:
في ثلاث من أربع دول عربية نجحت فيها انتفاضة «الميدان» في إسقاط النظام، ضاع «النصر» وسط الزحام، وحل محله القلق والضياع وعدم وضوح صورة النظام البديل، وبالتالي افتقاد القدرة على إقامته بالسرعة المطلوبة وبالحزم الضروري.
وحدها تونس تبدو وكأنها تخطت المأزق مؤقتاً ربما لأن نظام بن علي قد اختار أن يخرج الى ثروته، خصوصاً بعد ما خذله الجيش الذي تبدّى ان «قيادته» الفعلية كانت في «الخارج» أكثر مما كانت في قصر قرطاج.
ثم أن «ورثة» بن علي الذين عادوا من المنافي البعيدة كانوا قد وجدوا الوقت لتنظيم صفوفهم في ظل رعاية لم تتأخر في الإعلان عن ذاتها، ولا هم ترددوا في الإعلان عن برنامجهم من قلب واشنطن، مقدمين نسخة معدلة من برنامج الإخوان المسلمين في طبعة غربية منقحة ومزيدة، تطمئن باريس أولاً ومن خلفها الغرب كله، عبر تركيا اردوغان وقطر الشيخ حمد وبركاته المؤكدة بالحقائب السمينة!
ولعل مما ساعد النظام الجديد على الخروج الى النور، بهدوء نسبي، أن تونس «دولة هامشية»، وأن نظام بورقيبة قد نجح في ابتداع «خلطة» مدنية ترضي المزاج الغربي من دون أن تشكل خروجاً على أصول الإسلام.
هذا فضلاً عن أن نظام بن علي قد سقط بسرعة قياسية وقبل ان تتفكك المؤسسات او تنهار، وظل الجيش حارساً للانتظام العام، وهكذا بقيت «الدولة» حاضرة، وأمكن إنجاز انتخابات النظام الجديد بالحرس القديم ذاته مع تبديل في «الرؤوس» مشفوعاً بتعهدات صارمة بأن تبقى تونس ما كانته، وأن تستمر «السياحة» المصدر الأول والأهم للدخل القومي برضا أهل الشرع والقيمين على الدين الحنيف، وقد غدوا الآن في مركز القرار.
بالمقابل فإن محاولة استنقاذ «النظام» بإسقاط رأسه قد تكررت في مصر، فتمت إزاحة حسني مبارك، بأقل الخسائر الممكنة، ثم فتح الباب أمام استنزاف «الميدان» بمسلسل من التدابير الهادفة الى إرجاء «القرار» في انتظار ان تستعد القوى المؤهلة لقيادة المرحلة الانتقالية… لخوض الانتخابات!
أثيرت قضايا شائكة بغير حصر، وطال الجدل حول دور الجيش وعلاقة الجيش بالميدان، والدستور وهل يكون اولاً او تسبقه انتخابات مجلس الشعب والشورى وانتخابات الرئاسة، بل إن الدستور ذاته صار موضع حوار طرشان. وتاهت الحكومات البلا صلاحيات في غمار الجدل. أسقط رأس الأولى وجيء برأس مستعار، ثم بثالث مستعاد من الماضي.
في هذه الأثناء، وبرعاية واضحة من الجيش، كان «الميدان» ينقسم: «ميدان الإيمان» ممثلاً بالإخوان المسلمين وعلى يمينهم السلفيون و«ميدان الآخرين» الذين يصعب توحيدهم على برنامج لسلطة ما تزال «ممسوكة» ممن لا يرغبون بتسليمها الى من لا يعرفون او – بالتحديد – الى من لا يثقون بقدراتهم فضلاً عن توجهاتهم المتناقضة، سياسياً وفكرياً واجتماعياً.
هكذا، وببساطة، انتقل الجيش من موقع البديل المؤقت والحكم في انتظار كلمة الشعب حول النظام الذي يريد الى مقرر في شأن «خليفته» في قيادة البلاد، وبالتالي الى قوة دعم علنية لتيار بالذات، كان يعرف انه الوحيد المؤهل لجني ثمار الانتخابات، لأنه ينفرد بعراقة وجوده ثم انه منظم جيداً وصاحب الخبرة الطويلة سياسياً وكل ذلك بين الكفاءات التي مكنته من الاستمرار على قيد الحياة، برغم الحروب المنظمة ضده، على اختلاف العهود.
أما في ليبيا، حيث كانت «الكتائب المسلحة» هي جيش السلطان وأولاده، فقد تعذر استخدام الجيش كقيادة عبور الى التغيير، تحمي «النظام» بخلع رأسه لتبرر دوامه… وهكذا كان لا بد من حل بديل يستنقذ الانتفاضة الشعبية المهددة من داخلها بقدر ما هي موضع هجوم صاعق بالنار من خارجها، كاد يصل الى منطلقها في بنغازي قبل ان توحد صفوفها.
وحين تورطت الانتفاضة في لعبة الاستعراض العسكري كان طبيعياً ان تتفجر مسألة القيادة ولمن تكون: لطلائع الثوار من أهل البيضاء وفيهم البراعصة الذين لهم ثأر قديم على ثورة القذافي لأنه اسقط سلطتهم (الملك إدريس) ام لبنغازي عاصمة الشرق؟.
كان لا بد من إنقاذ سريع لا يتوفر في الداخل، ولا في المحيط… وهكذا تبرعت جامعة الدول العربية بالفتوى، فكان اللجوء الى مجلس الأمن، ولكل من دوله «ثأر بايت» على القذافي، وكان تفويض الحلف الأطلسي بأن ينجز المهمة، ولا يهم أن تصل أعداد الضحايا الى أكثر من ستين الفاً، وأن تدمر المطارات وفيها الطائرات الحربية الحديثة والثكنات وقواعد الصواريخ وطوابير الدبابات والمدفعية الثقيلة.
لا بأس غداً يشتري النفط سلاحاً أكثر حداثة وأعظم فعالية، فالغرب جاهز الآن لأن يحل محل الاتحاد السوفياتي ومعسكره الذي اختفى من الوجود.
لمن القيادة الآن؟! للمجلس الانتقالي ام للحكومة المؤقتة ام لمجلس زعماء القبائل؟ وأين موقع الإسلاميين؟! ثم أين نذهب بثوار مصراته الذين ينسبون لأنفسهم حسم المعركة عبر الاستيلاء على سرت، بعد مقاومة شرسة امتدت لأسابيع وانتهت بمصرع الطاغية في ظروف ملتبسة وبطريقة مستنكرة؟. وأين الإسلاميون الذين قفزوا، فجأة الى المسرح وبعضهم آت من «القاعدة» عبر واشنطن، وبعضهم الآخر من لندن، وبعضهم الثالث جاء من الدوحة التي باتت مركزاً كونياً لحضانة الثورات ورعايتها بالمال والسلاح والفضائية الأقوى من حزب.
هكذا نجد أنفسنا أمام أصناف من التشكيلات الإسلامية، بعضها يأتي من ماضي الاضطهاد بعد عبور «المطهر» الأميركي، وبعضها الآخر، السلفي، وهو مستجد ويأتي من الماضي ومن قبل أن يصير «الإسلام» رسالة الإيمان الموجهة الى الناس كافة.
وفي ظل الشعار الديني تزداد معركة التغيير صعوبة وتعقيداً، لا سيما في المشرق العربي، التي تعذر على امتداد ألف سنة او يزيد ان تمحي الذكريات او تطمس الصفحات السوداء حاملة للوقائع الدموية الخطيرة التي كادت تذهب بالدين وهو في فجره بعد.. فوقائع الاقتتال في موقعة الجمل ثم في صفين والمذبحة، من بعد، في كربلاء ما تزال طرية، والأرض ما زالت تحمل الشهادات والسجلات الناطقة التي تستعصي على النسيان.
من هنا يتشعب الحديث عن سوريا ومستقـبل النظام فيها وينحدر فجأة الى مخاطر الحرب الأهلية ذات الشعار الطائفي الصــريح، والتي ستـكون إذا ما تم تفجيرها مذبحة هائلة تمتد لتشمل المشرق العربي جمــيعاً، العراق ولبنان إضافة الى سوريا، مع الارتدادات المتوقعة والتـي يمكن ان تجد لها أصداء قوية في البحرين وفي اليمن، وربما لامست المملكة العائمة على الذهب الأسود ومعها الكيانات الصغـيرة القائـمة على آبار النفط والغاز.
ومعروف أن جراح لبنان لمّا تلتئم بعد، بعد أن عاش او فرضت عليه وعلى شعب فلسطين ومقاومته المسلحة معاهدات الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي أن يعيشا دهراً من الحرب الأهلية متعددة الشعارات والجبهات والأهداف.
وها إن العراق المثخن بالجراح الآن يحتفل بالجلاء الطوعي لقوات الاحتلال الاميركي التي اجتاحه في ربيع العام 2003، فلم يقاتله الطاغية كما ينبغي أن يقاتل، لأنه كان قد استهلك قدرات شعبه في حروب عبثية، مرات خارج حدوده، ومرات أكثر داخل حدوده وضد شعبه بالذات.
لكن عراق ما بعد الاحتلال لم يعرف قيادة وطنية جامعة تعيد توحيد شعبه الذي اغرق في مسلسل من الفتن التي ضربت وحدته الوطنية.
يمكن القول باختصار: إن الاحتلال الذي ورث الطغيان قد أورث العراق للفتنة الأهلية.
السؤال: أي إسلام هو المؤهل والقادر على بناء المستقبل العربي في مختلف ديار هذه الأمة، التي تعيش في قلب الخوف بينما انتفاضتها تملأ الميادين وتسقط الرؤساء، في حين تجدد أنظمة الماضي ذاتها بالشعار ذي الوهج الديني مستحضرة مخاطر حروب أهلية لا تنتهي.
اللهم إذا استعاد الميدان جماهيره ومشى الى التغيير وبرنامجه في يده، لا تشغله عنه أية مساومة مع الماضي.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية