طلال سلمان

مع الشروق أهل النظام العربي يدمّرون دولهم ويحتمون بواشنطن.. بوصفهم من مصالحها

تعاظم الانهيار في الدنيا العربية شاملاً القيم والبديهيات والثوابت اليقينية، وبينها الدين، بحيث بات من الأسهل تعداد الأقطار غير المهددة في وحدتها الوطنية أو في وحدة ترابها الوطني، وبكلمة: في مصيرها كدولة وفي مصير سكانها كشعب لطالما تبدى موحداً في أهدافه ومظالمه ومطامحه.
من أقصى المغرب الى أدنى المشرق، تطالعنا «دول» مهددة في وحدة كيانها السياسي نتيجة الاضطراب الخطير في أوضاعها الاجتماعية وتعاظم الفجوة بين نظامها الحاكم والمحكومين من رعاياها.
بعض الدول يهدد وحدتها التعدد في العناصر المكوّنة لشعوبها، والذي انقلب من ميزة الى نقيصة، ومن سبب لتطوير النظام وتحصينه بالديموقراطية وبالمصالح المشتركة والطموح الى مستقبل أفضل في دولة واحدة بنظام فيدرالي أو بأرجحية للامركزية فيه تضمن لفئات الشعب جميعاً أن تؤكد حضورها بخصائصها الدينية والثقافية والاجتماعية من داخل «دولتها» الجامعة وليس من خارجها… والخارج خوارج، والخوارج مصالح للأجنبي لا يهمه أن يذهب تحقيقها بوحدة الشعب بمكوناته جميعاً، ووحدة الدولة باعتبارها الإطار الجامع للأهداف والمصالح المشتركة لمواطنيها كلهم.
دول أخرى يهدد وحدتها فشل نظامها في تحقيق مطامح شعبها، واستعانته بالتمييز بين فئات الشعب لتقسيمها وتفتيتها حتى تتهاوى قدرته على التغيير، عن طريق استغلال الدين واختلاف المذاهب تارة، أو عن طريق الفرز بين «المديني» و«القبلي» تارة أخرى، أو بين «المتدينين» و«العلمانيين» تارة ثالثة، وتنظيم الاشتباك بينهم جميعاً ليستقر الأمر للنظام الحاكم، مستثمر الدين، لكي يحصد خيرات الدنيا جميعاً بلا حسيب أو رقيب من أهل الدين أو من أهل الدنيا، لا فرق.
لقد نجح أهل النظام العربي، عموماً، في إلغاء «الوحدة الوطنية» داخل الدول التي يحكمون، واستخدموا الفرقة والتمييز وبث الخلافات بين «رعاياهم» حتى ينشغلوا بهمومهم عنهم… ففي غياب الوحدة يستحيل التغيير، بل تغدو المطالبة به وكأنها حض على الفتنة أو تورط في مشروع للحرب الأهلية، مما يوفر للنظام فرصة الظهور بمظهر مانع الفتنة وحامي وحدة الوطن وشعبه، ويكسب نفسه شيئاً من القداسة بحيث تصبح المطالبة بالديموقراطية مثلاً دعوة الى الاشتباك الأهلي وتخريب الاستقرار وتدمير الاقتصاد… وكل ذلك جرائم بحق الوطن يستحق مرتكبها المحاكمة والإدانة للتخريب على الوحدة الوطنية.
إن أهل النظام العربي قد باتوا أقوى من دولهم, بل لقد باتوا يتجرأون على الادعاء أنهم ـ بأشخاصهم ـ ضمانة الوحدة الوطنية والكيان السياسي، مما يضفي عليهم «قداسة» مزورة تجعلهم أهم من الوطن وشعبه، ويسهل الادعاء، بالتالي، أن كل الأمن والأمان، الاستقرار والرخاء، سوف يذهب بذهابهم.
وفي الأحوال جميعاً فإن قوى الهيمنة الأجنبية، الأميركية أساساً، وإسرائيل دائماً، تجد في الانقسامات أو التقسيمات التي يستولدها النظام العربي بفشله أو بعجزه أو بدكتاتوريته، المجال رحباً لكي تتدخل… بل انه كثيراً ما يستدعيها أو يذهب إليها طالباً النصح والمساعدة، مسلّماً لها بحقها في المشاركة بالقرار، مستفيداً من واقع وعيه بأن هذا النظام العربي قد غدا أحد أخطر استثماراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.
لم تعد قوى الهيمنة الأجنبية مضطرة لانتظار طلب النجدة. إنها تتصرف بمنطق أنها أعرف بواقع أهل النظام العربي منهم، وأنها أحرص على استقرار الأوضاع في بلادهم، وحتى بوحدة شعوبهم منهم…
ثم إن أهل النظام العربي باتوا يعتبرون أنفسهم ومواقعهم بين مصالح قوى الهيمنة الأجنبية (الأميركية أساساً ومعها الآن الإسرائيلية)، وبالتالي يمضون في ممارسة سلطتهم أو تسلطهم مطمئنين الى أن قوة الدعم الأجنبي مضمونة، في حين أن قدرة الشعب على التغيير محدودة بل ومعدومة… لا سيما أن مخابرات دولية متعددة، بينها إسرائيل، تضع خبراتها في تصرفهم، فتحمي استثمارها في أنظمتهم التي كلما تزايد ضعفها اشتدت حاجتها إليهم كقوة حماية.
ومثل هذه الحماية المصفحة لأهل النظام العربي تذهب بالدولة وبوحدة الشعب الذي سوف يتعرض الى حملة تضليل شاملة تدمر يقينه وتجعله فريسة الخوف متعدد المصدر وتشل تفكيره وإرادته وتجعله يسلّم بقدره ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم… لكنه يخاف من أن يتهم بالتطرف إذا ما ربط بين تديّنه وتذمره من واقعه، فيفصل بينهما حتى لا يتهم بتسييس الدين، وهذه تهمة خطيرة جداً لو تعلمون.
ولأن أهل النظام العربي عباقرة ومجددون في ابتداع وسائل الحفاظ على أنظمتهم فقد سخروا المآسي الوطنية أو القومية لخدمة أغراضهم وأولها وأخطرها التحلل من موجبات السيادة، واللجوء الى القاعدة الأبدية التي تبرر الوسيلة، ولو قذرة، بالغاية التي يدّعون أنها «نبيلة».
فأما أهل النظام في الجزيرة والخليج فقد وجدوا العذر في إسقاط الحرم عن العلاقة مع إسرائيل، بوصفها عدواً، ليبرروا علاقة جدية معها على قاعدة: عدو عدوي صديقي… فإسرائيل، في رأيهم، تلتقي معهم في العداء لإيران، وبالتالي فهي يمكن أن تحميهم من خطرها.
وهكذا، وبلا مقدمات، صارت إسرائيل تدعى فتشارك في مؤتمرات لها طابع دولي مموّه، ويجلس مندوبها ـ الوزير وأمامه العلم بالنجمة السداسية الزرقاء، بين «الشركاء» من «الأصدقاء العرب»، سعيداً بتحقيق هذا المكسب التاريخي الذي جاءه مجاناً وبغير تعب.
في دول أخرى قد يكون العذر في اللجوء الى إسرائيل عبر الإدارة الأميركية لإرساء قواعد الشركة في صد «القاعدة» وهجماتها التي تهدد النظام.
سقطت فلسطين سهواً، أو تم إسقاطها بتبني مقولة نموذجية في استغباء الرعايا: ان الفلسطينيين أنفسهم قد سلموا بوجود إسرائيل، بل إنهم اعترفوا بها كدولة ليهود العالم فهل تريدوننا أن نزايد عليهم فنرفضها مطالبين بالتحرير من النهر الى البحر؟ لقد مضى زمن المزايدات وانقضى، وقد حصدنا جميعاً ثماره المرة على امتداد دهر… فلماذا لا نقبل بالأمر الواقع ونتصرف بعقلانية فنحمي مصالحنا؟
ولقد تصرف الأمير السعودي تركي الفيصل بموجب هذه العقلانية في مؤتمر دولي للأمن انعقد في ميونيخ بألمانيا، قبل أيام… فحضر وشارك برغم جلوس مندوب إسرائيلي على المنصة. وحين «تحداه» هذا المندوب لبى النداء مبتسماً، «وحاور» نائب وزير الخارجية في إسرائيل داني أيلون، الذي تسبب في أزمة دبلوماسية جدية مع تركيا حين استدعى السفير التركي وجعله ينتظر عند بابه وعدسات الفضائيات تسجل هذه اللحظة الحرجة، ثم أدخله فلم يصافحه بل أجلسه على مقعد منخفض ووجه إليه كلمات جارحة… وهي إهانة سرعان ما ردت عليها تركيا ملوّحة بتدابير قاسية دفعت برئيس الحكومة الإسرائيلية الى الاعتذار علناً..
في ميونيخ كان يكفي أن «يتحدى» داني أيلون الأمير السعودي بأن يصعد الى المنصة لمصافحته، فرد الأمير بأنه مستعد لأن يصافحه لو نزل الى عنده، فنزل المسؤول الإسرائيلي المتلهف الى مصافحة واحد من الكبار في الأسرة الملكية السعودية ومد يده، فشد عليها سمو الأمير… وبعد ذلك عاد المسؤول الإسرائيلي الى المنصة منتشياً بهذا المكسب الدبلوماسي المجاني.
[[[[[
لم يعد لدى أهل النظام العربي قضية إلا استمرارهم في السلطة، مهما كان الثمن. وإذا كان بعضهم يبرر تخليه عن كل ما يتجاوز سلامة النظام، بذريعة أن العالم قد تغير، وصار له قطب أوحد، هو أميركا، فإن هذه «الأميركا» لا تختلف في شيء عن إسرائيل، انه يراهما وحدة متكاملة، ولذلك فهو يفترض أنه بقدر ما يعطي إسرائيل يأخذ من أميركا، والعكس صحيح… لأن أهل النظام العربي يعتبرون أن العداء لإسرائيل قد انتهى وأن احتمال الحرب معها، سواء من أجل فلسطين (أو لبنان، أو سوريا) سيكون بسبب من إيران ليس إلا، وعلى «حلفائها» من العرب أن يتحملوا النتائج.
وفي مثل هذه الحرب المحتملة فإن أهل النظام الــعربي بأغلبيتهم سيكونون في صف إسرائيل، وسيجدون ألف ذريعة لتبرير هذا الموقف، بدءاً بالخطر الإيراني على المستقبل العربي، وصولاً الى خطر الاجتياح الشيعي للعالم العربي السني بأكثريته الساحقة… والبعض يحاول تمويه الخلاف المذهبي بتقديم الاختلاف القومي، فيصير، فجأة، قومـياً عربياً مناضلاً من أجل عروبة الأرض، إلا في فلسطين، ومن أجل دحر الغزو الفارسي لأرض العرب.
لقد عظم أهل النظام العربي من شأن إيران حتى جعلوها قوة عظمى في بلادهم يمتد نفوذها من أقصى المغرب الى أدنى المشرق في اليمن، ولتدعيم هذا الادعاء ظهّروا لفترة حكاية نشر التشييع في أوساط الغالبية العربية السنية، ثم سحبوها من التداول بعدما أدت غرضها في تسميم الجو ونشر مناخ الفتنة في أكثر من بلد عربي (اليمن بعد العراق ولبنان…).
وها ان بعض أهل النظام العربي لا يترددون اليوم في المجاهرة بالتحالف شبه العلني مع إسرائيل لمواجهة الخطر النووي الإيراني، متجاهلين بالقصد أن إسرائيل وحدها من دول المنطقة، بما في ذلك تركيا وإيران، تملك ومنذ أكثر من ثلاثين سنة مفاعلاً نووياً في ديمونا، في فلسطين المحتلة، وعندها أكثر من مئتي رأس نووي.
لقد وقف أهل النظام العربي «يتفرجون» على إسرائيل وهي تشن الحرب على لبنان فتدمر العديد من مدنه وقراه، وترتكب المجازر في العديد من الجهات (أشهرها في بلدة قانا)..
ثم وقفوا «يتفرجون» على إسرائيل وهي تدمر أسباب الحياة في قطاع غزة، وترسل طائراتها لترمي أولئك اللاجئين لثالث مرة الى «القطاع» الفقير والمحاصر، بالقنابل الفوسفورية وأسباب الدمار الشامل جميعاً… ثم تولوا إكمال الحصار وتشديده بعد الحرب.
وها هم يتفرجون على جمهورية اليمن وهي تتشظى جهات ومناطق وقبائل وعشائر وقبائل ومذاهب، ويشتبك نظامها مع شعبه الذي يتبدى اليوم وكأنه شعوب لا يربطها رابط، بينما تستدرج السعودية الى اشتباك يفتح مجدداً الخلاف الحدودي الذي طُوي، في ظروف ملتبسة، وإن ظل الذهب هو العنصر المقرر فيها.
أما العراق فإن الاحتلال الأميركي يضعه مرة أخرى أمام الخيار المستحيل: بين وحدة شعبه، وبالتالي وحدة دولته، أو الحرب الأهلية المفتوحة بين طوائفه ومذاهبه وعناصره والقوميات المتشابكة..
ولعل أطرف المضحكات المبكيات هو الاتهام الموجه الآن الى الاحتلال الأميركي بأنه يحابي حزب البعث الذي كان صدام حسين يحكم باسمه وشعاراته، مع التركيز على «سنّية البعثيين مقابل مطامح الشيعة بالتفرد في الحكم»… والى أن تنجلي الحقيقة يكون شعب العراق قد أغرق في دمائه بحرب أهلية مدمرة تذهب بما تبقى من دولته ووحدة شعبه، بينما أهله العرب يحتفلون بأنهم نجحوا في منع إيران من الهيمنة على العراق.. ولا عراق..

[ تنشر في جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version