طلال سلمان

مع الشروق أسوار الدم حدوداً بين العربي والعربي… وبين «دولهم» وشعوبها!

قد يجد اللبنانيون شيئاً من العزاء إذا ما التفتوا فعرفوا أو تعرفوا الى أوضاع «أشقائهم» في أقطار عربية أخرى، يعانون هناك مثل ما يعانون هم في حالتهم الراهنة من افتقاد الحكم المؤهل والقادر على حماية وحدتهم الوطنية، ومن ثم دولتهم.
إن معظم الدول العربية تعاني أزمة حكم أو أزمة نظام تجعلها على شفير الحرب الأهلية، وتضعفها تجاه أعداء شعبها في الخارج (إسرائيل) ومشروع الهيمنة الأميركية، أو تجاه قوى التطرف في الداخل سواء ارتدت مسرح الأصوليات أو السلفيات.
بنظرة واحدة الى خريطة ما كان يسميه الحالمون «الوطن العربي» يتبين أن هذه المساحات الشاسعة من الأقوام والأحلام والقدرات والخيبات قد باتت أرخبيلاً تفصل بين جزره المتباعدة بحور من دماء أبنائها، مما يقطع بين الحاضر والمستقبل بأسوار من شهداء الغفلة والغلط والغرض وغياب الوعي وإغماء العقل.
أسوار من الدماء تفصل أبناء الوطن الواحد بعضهم عن البعض الآخر، وتفصلهم مجتمعين عن «أهلهم» في «الدولة» المجاورة التي كانت شقيقة فصارت عدواً مبينا.
من السودان الى اليمن وصولاً الى العراق تتفسخ الأنظمة وتتهاوى تاركة لشعوبها الخيار الوحيد: الحرب الأهلية، بينما تتوغل الدول الأجنبية في ثنايا الجروح التي ستغدو في ما بعد مستوطنات طائفية أو مذهبية يفصل بين الواحدة والأخرى سور من الجماجم، وترفرف فوق سرايات الحكم فيها أعلام الأجنبي الذي جاءها بالسلامة على حساب الوطن، وهو في الأغلب الأعم الأميركي ومعه بطبيعة الحال، ومن دون حاجة الى دعوة: الإسرائيلي.
في السودان يمكن توظيف اختلاف الأعراق ثم الأديان، وصولاً الى القبيلة، بحيث يتحول انهيار الوحدة الوطنية داخله الى اشتباك مرشح للامتداد الى مجموعة كبرى من الدول الأفريقية.
العنصر الوحيد المسكوت عنه هو النفط ومعه الثروات المعدنية، والأخطر: النيل باعتباره شريان الحياة لعدد من الأقطار الأفريقية، أهمها ـ بعد السودان ـ مصر( هبة النيل).
وليس أسهل من تنظيم اشتباك مفتوح بين دول المنابع ودول المجرى ودولة المصب: الماء أغلى من النفط، وقد يكون أغلى من الدماء.
ففي معظم الأقطار الأفريقية لم تقم الدولة إلا حديثاً … وهي قد استولدت مشوهة، تحمل بذور انحلالها في المسوغات التي اعتمدت لإقامتها من خارج منطق الجغرافيا وسياق التاريخ الطبيعي لهذه الأرض.
[[[
إن أمن إسرائيل مسور ومحمي بدول العالم كافة: أعلام قوات الطوارئ الدولية ترفرف فوق جنودها المستقدمين من أنحاء شتى تحت راية الأمم المتحدة الزرقاء، كما العلم الإسرائيلي (يا للمصادفة).
الحرب على إسرائيل كأنها الحرب على العالم أجمع.
لم تعد إسرائيل بحاجة للخروج الى الحرب إلا حيث المقاومة شعبية. تم تدجين الدول. لكن إرادة المقاومة لا تزال فاعلة. ولأن إرادة المقاومة في لبنان أقوى من الدولة فقد تعذر إحداث شرخ حقيقي بين الدولة الضعيفة والمقاومة القوية في لبنان.
النظام معني بأمنه. وإسرائيل، لأسباب تخصها، مستعدة لان تحمي أمن الأنظمة ما دامت لا تريد ولا تقدر ولا تنوي أن تقاتلها.
إن هذه الأنظمة تتحول، في مثل هذه الحالة، الى حرس حدود لإسرائيل، في ظل أسوار من الدماء ترتفع لتفصل بين أبناء الشعب الواحد في الدولة الواحدة.
يصبح الخيار محدداً بين نظام بوليسي يلغي المواطنة (والوطن) بالقمع المنهجي، ليحمي الدولة، وبين الحرب الأهلية اللاغية للوطن والدولة والمواطن معاً.
وهذا ليس خياراً بالطبع، بل وجهان لعملة واحدة.
[[[
ثمة أنظمة ألغت دولها وشعوبها.
ها هو العقيد معمر القذافي يحكم ليبيا منذ أربعين سنة متصلة.
وها هو يتربع الآن على عرش ملك ملوك أفريقيا التي ما إن تعرفت أقطارها الى «الدولة» التي اصطنعت على عجل، حتى تملصت منها القبائل التي تم توزيع الواحدة منها بين دول عدة بعد تهيئة المسرح لصراع مفتوح في ما بينها يعيدها الى ما قبل عهد الرق والاستعباد.
وماذا لو أن هذه الممالك الأفريقية تقتتل قبائلها التي لم تعرف الدولة في حروب بين الأهل كما بين الجيران على المراعي التي «يكمن» النفط تحتها، فتسيل دماء الأفارقة غزيرة لكي يعود المحتل فيأخذ النفط الذي سيغدو بلا صاحب، ويعيد إذلالها بثرواتها «الوطنية» بينما الملوك جميعاً في شغل شاغل عن مصير هذه القبائل التي صيرت شعوباً ثم صيرت دولاً بقوة المصالح الأجنبية. ما أرخص الاستثمار وما أغلى الكلفة!
ولقد دخل القذافي في حروب مع دول الجوار جميعاً، مصر، السودان، تشاد، وتونس، كما دخل في مواجهات سياسية حادة وصلت في بعض الحالات الى السلاح، فأغار عليه الطيران الحربي الأميركي وقصف مركز قيادته موقعا فيها الضحايا. وخاض حرباً اقتصادية هائلة مع أوروبا بعنوان ايطاليا فكسبها وأخضعها لمطالبه، مفترضاً أنه ثأر لأجداده الذين أذلهم الاستعمار الإيطالي بالقتل والتشريد ومعسكرات الاعتقال، وسوق أبطال انتفاضاتهم الى المشانق.
كان النفط حمايته، وهو قد أفاد منه في صراعه مع الخارج، كما في اختصار الداخل في شخصه وبعض ذريته من بعده.. والداخل دواخل، خصوصاً وقد أعيد الاعتبار الى «القبيلة» مع كل ما يحمله من مخاطر على الدولة التي تحققت فيها مقولة «الدولة أنا وأنا الدولة».
[[[
في حوار أجريته مع الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في القصر الجمهوري بصنعاء، قبل أعوام، ساقتني طرافة أجوبته على مختلف الأسئلة بصيغة صاحب القرار المفرد الى توجيه سؤال طريف نصه: السيد الرئيس… أنت تتبدى وكأنك الخليفة، أمير المؤمنين، وشيخ القبيلة، والقائد العسكري، و«بيت المال»، وصاحب الشرطة وحامي الديموقراطية، ومصدر الموت والحياة.. فمن أنت، على وجه التحديد؟!
ولقد ضحك الرئيس الذي لا تنقصه روح النكتة، وأجابني ببساطة: نعم، أنا كل هؤلاء، إن شئت.
الطريف أن السؤال كان جاداً وان الجواب كان أكثر جدية!
لكن الطرافة لا يمكن أن تواكب أو تغلف الأحداث المأساوية الجارية في اليمن هذه الأيام.
فقلما شهدنا الطيران الحربي لأي من البلدان العربية التي تحكم سلطتها بالسيطرة على أسباب القوة، يقوم بشن غارات، بالصواريخ والقنابل الثقيلة، على مدن وقرى ودساكر فقيرة في وطنه، معززاً بمدفعية الميدان وقاذفات الصواريخ وسائر آلات التدمير، وقوات النخبة في جيشه، وسط صمت عربي وعالمي مريب يفضح التواطؤ ـ الفضيحة!
لا نقول هذا الكلام دفاعاً عن الحوثيين، أو إسنادا لهم، وهم الذين لم يعرف لهم برنامج سياسي، ولم يشكلوا في أي يوم أملا في تغيير جذري في اتجاه التقدم والديموقراطية وتعزيز الوحدة الوطنية، داخل هذه البلاد التي تغرق في دوامة الفقر والتخلف محاصرة بمشكلاتها وبالحب القاتل الذي يضمره جارها القوي بثرائه الفاحش وبالحماية الدولية المطلقة.
لكنه حدث فريد في بابه: الجيش الوطني يغير بالطائرات الحربية التي دفع الشعب الفقير ثمنها، فيطلق الصواريخ والقذائف الباهظة الأثمان، على بعض أنحاء هذا الوطن المقهور بتخلفه وبغربته عن العصر، ويسقط القتلى والجرحى بالمئات، وتدمر المنازل في المدن والقرى التي لم يصل اليها «غريب» إلا في النادر، وغالباً ما يكون من يصل من هواة الآثار أو من دارسي العصور القديمة من التاريخ الإنساني بتحولاته المختلفة عبر الأزمان.
اللافت أن دوي صواريخ الطائرات وقذائف المدافع والدبابات الثقيلة لم يحرك اهتمام أحد، لا في الدول العربية «الشقيقة» ولا في الدول الأجنبية «الصديقة»، ولا حتى في الهيئات التي طالما تحركت بسرعة للاحتجاج على اعتقال مثقف معارض أو بعض المعنيين بحقوق الإنسان.
والصمت هنا قرار سياسي عربي ـ دولي شامل!
لا الأمم المتحدة بمنظماتها المختلفة، لا منظمات حقوق الإنسان، لا جامعة الدول العربية، ولا أية دولة منفردة، لا أجهزة الإعلام، الرسمية منها والأهلية والخاصة، التي لا تنقصها المعلومات أو الصور، بدليل ما تحفل به نشراتها الإخبارية من صور لآثار القصف الجوي والمدفعي، أو لصور مغانم الحوثيين من أسلحة الجيش اليمني.
لا أحد تحرك، أو رفع صوته بالاحتجاج، أو اندفع الى الشارع متظاهراً بدوافع إنسانية، ان نحن وضعنا جانباً الترابط القومي ومشاعر وحدة الانتماء العربي.
وهكذا ترك للدم اليمني أن يغمر أرض اليمن وسط صمت كثيف لا يفيد كثيراً في طمس الدم الذي قد يكون هسيسه أعلى صوتاً من تفجر البراكين.
هل السبب أن العرب قد اعتادوا أن تهدر أنظمتهم دماءهم بمثل ما يهدرها العدو الإسرائيلي، والاحتلال الأميركي، دون ضجيج أو تظاهرات غضب.
هل السبب أن «العربي» كإنسان، بات وحيداً: يفصل نظامه القمعي بينه وبين أخيه وشريكه في آماله وطموحه الى مستقبل أفضل؟
أم أن السبب في أسوار الدم التي ارتفعت بين كل قطر عربي والآخر، بحيث تفككت الروابط، وضمر الإحساس بالرابط المشترك وبوحدة المصير في الحاضر وفي المستقبل، وكأنما أمل الوحدة صار عبئاً على كواهل المؤمنين به لا يستطيعون تحمل مسؤوليته.
لقد بات كل قطر عربي معزولاً عن «جاره» و «شريك مصيره» القطر الآخر بسور من دماء أبنائه، وغالباً بسور مشترك من دماء الرعايا في القطرين الجارين اللذين كانا إخوة فانفتحت بينهم هوة من العداء «يزينها» اللون القاني لوحدة المصير.
كيف والحال هذه يكون للعرب المفصول بعضهم عن بعض بأسوار من دمائهم مستقبل واحد ومصير واحد.. بل كيف يبقى لهم هوية واحدة.
تلك هي المسألة.

[ تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version