طلال سلمان

معركة رئاسة اميركيا و لبنانيا اهل سلطة يدمرون دولة

من المصادفات القدرية المبهجة(!!) هذا التزامن في موعد المعركة الرئاسية في كل من الولايات الأميركية المتحدة والجمهورية اللبنانية التي تكاد تفتقد وحدة دولتها!
ومن المفارقات غير المبهجة في المقارنة بين المعركتين الرئاسيتين ان المرشحين هناك يتبارزون في برامجهم حول من سيجعل دولته الامبراطورية أعظم قوة بحيث تجعل هذا القرن أيضاً قرناً أميركياً بالمطلق، بينما تكاد المبارزة عندنا تنحصر في إطار المقارنة بين الاشخاص في جو من »الغموض البناء« يعتمد اللغة حمالة الأوجه التي لا تستعدي أحداً من الأقوياء، وتسترضي جميع الطوائف وجميع المراجع والمرجعيات، في الخارج أولاً ثم في الداخل ومن باب استكمال الشكل.. ودائماً على حساب المهمة والدور والمضمون!
هناك لم يصب الشلل الدولة، ولم تتعطل مؤسساتها، بل ان الإدارة التي يقودها الرئيس المرشح واصلت حربها على العراق بعد احتلاله، وواصلت حربها الأخرى ولو عبر دعمها لإسرائيل شارون على فلسطين في محاولة جدية ومنهجية لتذويبها قضية ووطناً وحلماً بدولة لشعب من الشهداء، بعضهم من قضى وبعضهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
أما عندنا فقد انقسمت الدولة على ذاتها، وعطل الرؤساء المؤسسات، بالقصد المقصود، لكي يسهل على كل منهم توظيف التهمة بالتعطيل ضد الآخر والآخرين، فيحقق بذلك »نقطة« في السباق المحموم إلى المنصب الفخم، بغض النظر عن الكلفة الباهظة التي يتكبدها الشعب في رزقه وأمن مستقبله، إضافة إلى ما هو فيه من بلاء نتيجة الانشقاق في قمة السلطة، والغرق في مستنقع الفساد وفضائح نهب المال العام، وخطر الضياع في متاهة الدين العام الذي بات أداة لتشهير كل رئيس بالآخر أو بالآخرين، بينما شباب لبنان يهجره ليبيع كفاءته وعلمه المكلف وعرق الزنود والجباه لمن يوفر له الرزق الحلال والأمان في مستقبله.
نادر من بين المرشحين الكثر، وبعضهم في السلطة، وبعضهم الآخر لهم من يدعمهم من قلب السلطة ضد شركائه في السلطة، من انتبه فأعد نفسه وخاطب الناس بمنطق المتنبه إلى ان من يتقدم إلى هذا المنصب الفخم يدرك خطورة اللحظة، سياسياً على مستوى المنطقة العربية برمتها التي تبدو ضائعة، يقرر لها »خصومها« نمط حياتها في مستقبلها، ان كان لها مستقبل، وأنظمة الحكم فيها ومناهجها المدرسية والصالح وغير الصالح من نصوص كتبها المقدسة وطقوس الصلاة.
ان المشروع الأميركي المتقاطع والمتكامل مع المشروع الإسرائيلي، يرسم سياسة للمنطقة تمتد لأجيال، وليس ل»عهد« بوش أو كيري، فأميركا في مواجهة العالم واحدة، والاختلاف بين المرشحين المتنافسين يكاد ينحصر في أيهما الأكثر كفاءة في تحقيق هيمنة مطلقة على الكون، بأرضه وفضائه، بموارده الاقتصادية وثرواته الطبيعية والأجيال الجديدة المؤهلة في مختلف الاقطار.
وبديهي ان الضغوط على المنطقة، ولبنان فيها ومنها، ستتزايد، وموازين القوى المختلة أصلاً سيتفاقم الاختلال فيها لصالح الاحتلال، أميركياً بالأساس وإسرائيلياً متكاملاً معه ومكملاً له، وأحياناً متقدماً عليه شراسة ودموية وجذرية في محاولة اقتلاع هوية هذه الأرض وأصحابها.
ولقد كان لبنان يتمتع بحد أدنى من الشروط التي توفر له قدراً من المناعة، اكتسبها عبر تجربته في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وفي حماية وحدته الوطنية التي صدعتها الحرب الأهلية من الانهيار تحت ضغط الصراع بين الرؤساء الاعداء.
واستطاع لبنان، حتى اليوم، ان يكون على صغره جزءاً من حالة ممانعة، لا تجرفه ضغوط الخارج، بينما استمرار الصراع فوق قمة السلطة يهدد بفرطه، فعلاً… لأن مواصفات التركيبة اللبنانية الخاصة جداً إلى حد الفرادة لا تتحمل حروباً فوق قمة السلطة، ستكتسب، بالقصد أو بالهوى، منحى طائفياً.
وجريمة ان تتسبب معركة على موقع الرئاسة في تهديد المناعة التي اكتسبها لبنان بدماء الشهداء من أبنائه الذين نجحوا في مقاومة قوة عاتية كالاحتلال الإسرائيلي، في حين ان تهافت »الاقطاب« من أهل الحكم، بأغراضهم وأمراضهم، يكاد يضيع الدماء والمناعة ووحدة الأرض والشعب.. والدولة!
وخديعة كبرى ان يصوَّر للبنانيين ان خروج شخص واحد من نادي الحكم سيفتح الباب على مصراعيه للانقاذ بالاصلاح الشامل الكامل لمختلف وجوه الحياة في هذا البلد الصغير بحجمه الكبير جداً بمشكلاته المعقدة والتي يتداخل فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والطائفي..
الوجه المقابل لهذه الخديعة ان يصوَّر للبنانيين ان دخول شخص واحد جديد قديم إلى نادي الحكم سيضع نقطة النهاية للوضع المأساوي الذي يعيشون في ظلاله الوارفة.
إن تصوير »الشخص«، أي شخص، وكأنه أهم من النظام وأهم من الدولة ومؤسساتها، لا يقود إلا إلى اليأس من الوطن..
إن الدولة قد تحولت منذ فترة إلى حقل رماية، يتبارى المسؤولون في اطلاق النار عليها: كلما اختلفوا حول من يدير هذه المؤسسة أو تلك دمروا المؤسسة… وهكذا يكاد لبنان اليوم يكون بلا مؤسسات، أو انه مثقل بمؤسسات عديدة ومتعددة ولكنها معطلة ومفرغة من أي مضمون.
إن أهل السلطة يخوضون »حرب ابادة« ضد بعضهم البعض، بحيث لا يتبقى لهم من الوقت ومن القدرة على التركيز لكي يتنبهوا الى المخاطر المصيرية المحدقة بالمنطقة جميعا، ولبنان منها وفيها في الصميم.
وأهل السلطة لا يتورعون عن المزايدة في النفاق لسوريا ومحاولة تصويرها طرفاً في صراعاتهم الشخصية، ولا يتعبون من محاولة اقفال باب الخيارات امامها، بإحراجها لاخراجها، بينما هي في غمار مواجهة شرسة مع الخطط المعلنة لفرض هيمنة اميركية اسرائيلية مطلقة على المنطقة برمتها، ولو بالنار والحديد والقتل اليومي والتدمير المنهجي لبنية البلاد، كما نشهد في العراق، مؤخراً، وفي فلسطين منذ زمن بعيد.
كل يدعي أنه انما يريد الوصول الى قمة السلطة لكي يؤدي واجبه القومي في حماية سوريا، باعتبارها راعية السلم الاهلي في لبنان… ولكنه لا يتورع عن الاتجار باسم سوريا وقيادتها حيث يفترض ان هذا الاستخدام يفيده، في حين انه »يبيع« سوريا عند اي امتحان جدي لمواقفه ازاء التهديدات الاميركية، فضلاً عن تنصله من المقاومة خوفا من اتهامه برعاية الإرهاب والمساهمة في تمويله ولو بالتبرع لدار أيتام!.
اما أهل السلطة فيتبارى واحدهم مع الآخرين في ادعاء »الوكالة الحصرية« عن سوريا، وكأن لا نصير لها ولا حليف غيره، ان هو اعتل او اصابه مرض او اخذه غرض، تيتمت سوريا ودهمتها العزلة وحاصرها خصومها المتربصون باعتبارها عنوانها وحامي حماها الاوحد.
تعلن سوريا بلسان رئيسها انها مع احترام الاصول ومع حماية المؤسسات، فيندفع كل من هؤلاء الاقطاب فوق قمة السلطة الى الادعاء انه وحده يجسد المؤسسات، ووحده يحميها، فإن هو ذهب في اجازة، ذهبت، وإن هو مرض مرضت.
هذا بينما مجلس الوزراء مشلول، تحتاج كل جلسة فيه الى اجتراح اعجوبة، وبينما المجلس النيابي قد سقط سهوا من ذاكرة اللبنانيين، بعدما عطل نفسه واستقال من دوره، كحصن للديموقراطية ومصدر للتشريع، وحارس لسلامة الممارسة والمرجع الدستوري والطبيعي لمحاسبة السلطة التنفيذية…
إن الرئاسات مشغولة بذاتها عن الدولة والشعب وهمومه الثقيلة.
وأجهزة الرقابة معطلة مرتين: بالذين عيّنوا فيها حتى يمنعوا »الخصوم« من الدخول الى جنة الادارة، فباتوا بأكثريتهم »أزلاما« لمن عيّنهم، لا حصانة لهم ولا قدرة على مقاومة الخطأ والمخطئين، ثم إن المخطئين لهم بدورهم من يحميهم ويمنع عنهم المحاسبة، خصوصاً أن من سيتولاها ليس زوجة القيصر، ولا هو في منزلة القيصر ذاته، بل لعله في خدمة قياصرة السلطة، الذين غالباً ما يتلطون خلف النفاق بالشعارات المفرغة من اي مضمون عن وحدة المسار والمصير.
وهكذا في قلب هذا الفراغ المقصود (والمشبوه؟) تجري معركة الرئاسة في لحظة مصيرية لا بالنسبة للبنان وحده، بل للمنطقة العربية بأسرها، وسوريا منها في الطليعة باعتبارها مستهدفة بحربي الاحتلال: الاميركي في العراق، والاسرائيلي في فلسطين.
وهكذا يراد لسوريا ان تبدو خاسرة، كائناً من كان الفائز في حرب الرئاسة في لبنان، فتصويرها طرفاً يحابي هذا المرشح او ذاك يفقدها حصانة »المرجع«، المتعالي عن المخاصمات والمناكفات الشخصية، بكل التداعيات الطائفية والمذهبية.
وخسارة سوريا هي ببساطة مكسب للسياسة الاميركية الاسرائيلية، في لحظة الخطر المصيري هذه… وبالتالي فإن خسارة لبنان ستكون مضاعفة بحيث لا يقدر أن يعوضها شخص الرئيس العتيد.
ولعل هذا ما يقع فيه، بخطأ الحساب او بالتخطيط المقصود، بعض أهل السلطة الذين ينافقون سوريا أناء الليل وأطراف النهار، حتى إذا اظهرت حرصها على الآخرين معهم أداروا لها ظهورهم متوجهين الى الضفة الاخرى.
…ويبقى الشعب خارج هذه الدائرة المقفلة على المتصارعين، مثقلاً بهموم حياته التي يعرف أنها ستزداد ثقلاً وبؤساً طالما استمر العراك على السلطة، من اجل السلطة وليس من اجل الوطن المهدد في منطقته التي تجتاحها الجيوش الاجنبية وتسعى لان تقرر لها هويتها ومستقبلها.

Exit mobile version