طلال سلمان

معرض للتفكير الحر والإبداع الثقافي

تخترق تظاهرة الفرح بالإبداع التي تنطلق يوم الاثنين المقبل بعنوان «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» جو البؤس واليأس الذي تفرضه «السياسة من خارج العمل السياسي» على لبنان والمنطقة العربية عموماً، لتعطينا ثلاثة عشر يوماً من الزهو بالنتاج الجديد، ثقافياً وفكرياً وفي مختلف مجالات النص الأدبي.
ومع ان المعرض يستحق التحية لذاته، ولمنظميه من أهل النادي الثقافي العربي الذين حافظوا على «إحيائه» كل سنة تأكيداً ان روح بيروت لا تزال تنبض تحية لجهد المبدعين وترعاهم، بعيداً عن مستنقع الصراعات والخلافات التي تغتال السياسة لتفتح الشوارع امام رياح الفتنة، فإن استمراره يؤكد ـ مرة أخرى ـ ان ما ينفع الناس يبقى، وأن ما يسيء إلى كرامتهم الإنسانية ويحقر مكانتهم الفكرية يذهب مع الريح.
إن هذا المعرض المفتوح لكل الآراء والأفكار والاجتهادات في البحث والدراسة يشكل نقطة نور وسط هذه الموجة الظلامية التي تستهدف روح الأمة وعقلها، وتواجه الأمر الإلهي المقدس: اقرأ.. باسم ربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
«اقرأ..»، ولقد جعلها مفتوحة بل مطلقة، ولم يحصرها بنص أو بتفسير، ولم يحرم كتابا أو يأمر بإحراق نتاج فكري جديد أو متجدد يخترق المألوف والتقليدي، ويؤكد ان الحرية شرط ضروري لأية نهضة، سواء في السياسة أو في الثقافة أو في أنماط الحياة عموماً.
وان يأتي معرض بيروت للكتاب في هذا التوقيت بالذات فإنه يعوض ـ بغير قصد ـ غياب بعض عواصم الكلمة والإبداع في الوطن العربي عن دورها الطبيعي في إغناء الحركة الثقافية والنتاج الفكري بسبب من «الفوضى الخلاقة» التي تجتاح الأرض العربية في محاولة لاغتيال بشائر الثورة المرتجاة التي تشكل المدخل الإجباري إلى الغد المنشود.
[ [ [
على هذا، تفرض التظاهرة السنوية المبهجة التي يوفرها النادي الثقافي العربي عبر معرض الكتاب، تحديا خطيراً على كل منا: كم قرأت، وكم ستتمكن من الاطلاع عليه من بين هذه المئات من الإصدارات الجديدة متعددة الموضوعات شعرا وقصة ورواية، قبل الانتقال إلى الدراسات والأبحاث والمعالجات الجادة لمسائل حياتنا وأزمات بلادنا المتوالدة من قصور أنظمة الحكم وتخلفها و«خياناتها» لمطالب شعوبها بل لحقوقها الثابتة عليها؟
تصدمك الأرقام هنا، إذ تكشف واحدة من اخطر الأزمات التي تتهددنا في مستقبلنا، فسوق الكتاب محدودة، وأرقام المبيعات من الكتب المختلفة الموضوعات تكاد تكون فضائحية.
الكل يحدثك عن أزمة القراءة. والبعض يذهب إلى الأبعد فيحدثك عن «أزمة اللغة العربية» المتهمة الآن بالتخلف عن العصر، وبالقصور عن تلبية احتياجات «القارئ الجديد»… هذا قبل الاندفاع في مطالعات موثقة عن تزايد اعداد القراء على الانترنت وسائر أسباب التواصل الحديثة مقارنة بأعداد من يقرأون «المطبوع» سواء أكان كتابا أم صحيفة أم مجلة، باستثناء المجلات الفنية ومجلات الأزياء الكاشفة جمال الأجساد؟
ومن أسف فإن وسائل الاتصال الحديثة لا تزوّد مستخدمها بالثقافة، فالبرقيات والموجزات المتعجلة لا علاقة لها بالثقافة، أما الأجهزة المؤهلة لتقديم الكتب المختلفة، من الروايات إلى البحث العلمي، إلى النصوص المميزة، والطويلة حكماً، فليست في تناول «العامة»… ويكاد يكون الكتاب الموجّه إلى جمهور القراء مستبعداً، فكم من القراء يملك ترف شراء «الآيباد»؟! ثم ان القراءة عملية متكاملة تشارك فيها الحواس جميعاً، العين والذهن والخيال والمشاعر، وليست عملية آلية، من دون أن تعني هذه الكلمات العداء للتقدم العلمي والتجديد في وسائل المعرفة والتواصل.
[ [ [
تفرح وأنت تتابع مواكب الفتية والفتيات ممن تأتي بهم مدارسهم إلى المعرض ليزينوا التظاهرة الثقافية ويملأوا قاعات المعرض بالأمل في جيل جديد قارئ… لكنك متى دققت في «هوية» مدارسهم ستكتشف ان الانشقاق قد ضرب جذور الانتماء إلى الوطن الواحد، وان اللغة اليومية لهؤلاء الفتية قد باتت مطعمة بالانكليزية والفرنسية، أما الأغاني التي يرددون فتكشف مدى «الغربة» التي يعيشها هؤلاء الفتية عن لغتهم التي باتت مجرد «مادة» وحيدة بين مواد دراستهم، من الحضانة إلى باب الجامعة.
فكيف ستنمو عادة المطالعة أو القراءة عموماً بلغة لن تنفع الطالب في بناء مستقبله حيث تشترط معرفته باللغة أو اللغات الأجنبية بغض النظر عن أعداد الأغلاط التي يمكن أن يرتكبها في نص رسالة أو في الأجوبة عن الأسئلة المطروحة عليه في الامتحان؟!
ومن أسف ان مجموع اللبنانيين قد سلم بأن اللغة العربية باتت «من عهد مضى» وان ليس لها مستقبل، وان لغة العصر هي الانكليزية أساساً، ومعها شيء من الفرنسية، في حين تنحسر اللغات الأخرى في بلادنا، الاسبانية والروسية والألمانية والصينية، ناهيك باللغات «المنسية»، الهندية والبرتغالية… الخ.
وبالتأكيد، فإن الشعوب الأخرى قد بدأت تهتم بـ«لغة العالم الجديد»، الانكليزية بلكنة أميركية، لكن ذلك لم يمنع دولها ومجتمعاتها من الحفاظ على لغاتها الوطنية ورعايتها لتظل مؤكدة للهوية الوطنية.
فاللغة هي الوجدان، وهي حافظة الهوية.
وبين المفارقات انه في حين بات من شروط المنسّبين إلى السلك الديبلوماسي الأجنبي العاملين في البلاد العربية ان يتقنوا اللغة العربية قراءة وكتابة وحديثاً، فإن «النخبة» في بلادنا تفضل ان تتباهى أمامهم بثقافتها اللغوية فتختار ان تحدثهم بالانكليزية غالباً، والفرنسية أحياناً، مهملة لغتها… برغم ما يتضمنه مثل هذا التصرف من إساءة الى الكرامة الوطنية، ومن ضمنها طبعا الكرامة الشخصية.
[ [ [
ووفقاً لما يتضمنه الكتيب الذي أصدره النادي الثقافي العربي عن المعرض، فإن المنشورات الجديدة تكاد تشكل مكتبة كاملة، سواء بتنوع النتاج أو بغزارته.. فلا تزال بيروت، إلى حد كبير، مطبعة الوطن العربي ومكتبته، لا سيما وان «المحرمات» في منشوراتها نادرة، وكثيرا من الكتب التي فرض عليها أهل النظام العربي الحجر في هذا البلد أو ذاك يمكنك إيجادها في بيروت التي لا تزال تحمي هذا الدور، متجاوزة الانقسام في الشارع اللبناني، وهو انقسام يرعاه ويسعى لإدامته رموز القمع من أهل النظام العربي ذواتهم… وهم لا يكتفون بقمع شعوبهم في الداخل، بل انهم يطاردون شغف المعرفة وإرادة تثقيف الذات والاطلاع على الأفكار والآراء والجديد في هذا العالم الذي يعيش ثورة فكرية بدلت في المفاهيم والقيم السائدة، لكنها ليست سببا للتنكر للهوية الوطنية أو الخجل بالانتماء القومي وتحقير لغتنا الأم التي نهجرها ولا تهجرنا.
يمكن هنا استعادة عشرات الحكايات عن قراء عرب تضطرهم الرقابة البوليسية على الفكر والثقافة عموماً أن يمزقوا أغلفة كتب اشتروها وحملوها معهم إلى بلادهم خوفاً من «الرقيب» في المطار الذي يتعامل مع الكتب وكأنها أخطر من المتفجرات فضلاً عن المخدرات بأصنافها… أما مجلات العري والفضائح فتمر بسلام خصوصاً وأن معظمها من إنتاج دول الرقابة البوليسية على الفكر.
على انه من الضروري الإشارة إلى ان «اللبناني» المعتد، غالباً، بأنه العالم العلامة والعارف بكل الأمور في كل الأمكنة والأزمنة، ليس شغوفاً بالقراءة، ومن هنا فإن المبيعات في المعرض لا تزال أقل من المأمول، فما أكثر «المتفرجين» وما أقل «المشترين»… وهذا «اللبناني» الذي يفاخر بأنه يشتري الأغلى من ماركات الثياب المشهورة، بما فيها الأحذية، ولا يأكل إلا في أفخم المطاعم، ولا يركب إلا السيارة آخر موديل، يتحول إلى مجادل ومفاصل عنيد ومساوم متميز عندما يتصل الأمر بالكتب وسائر أسباب الثقافة.
برغم ذلك كله، فإن معرض الكتاب العربي مستمر كتظاهرة ثقافية تؤكد حيوية بيروت ـ الأميرة التي تشارك في أيام الفرح هذه… وكل ذلك بجهد نفر من «المناضلين المتقاعدين» في النادي الثقافي العربي، الذين لم تأخذهم الحروب ـ أهلية أو عربية ـ عربية ـ إلى التخلي عن هذا «الواجب القومي» الذي يعزز دور لبنان وعاصمته ـ الأميرة، بوصفها المنتدى الثقافي والشارع العربي والمقهى والملهى والمكتبة والكتاب وجريدة الصباح.

Exit mobile version