طلال سلمان

مضطهد فلسطيني يقلد مضطهدة

لا تبرير، مبدئياً، للاغتيال السياسي… ولكن إسرائيل الدولة هي التي أدرجت الاغتيال السياسي كسلاح أساسي في حربها المفتوحة ضد شعب فلسطين، منذ ستين سنة أو يزيد.
لقد طاردت إسرائيل، الدولة، القيادات والنخب الفلسطينية، في كل أرض، وقتلت بلا رحمة وبلا »احترام« للدول الأخرى، دبلوماسيين ومثقفين ومناضلين سياسيين، فضلاً عن القادة العسكريين الذين تمكنت من »اصطيادهم« في كل مكان: في بيروت قبل حوالى ثلاثين سنة (حتى لا ننسى غسان كنفاني، الأديب والكاتب والفنان، ثم كمال ناصر الشاعر، وكمال عدوان وأبو يوسف النجار)، وفي قبرص وفي تونس وفي مالطا، في لندن وباريس، وفي كثير من العواصم البعيدة، عدا المحاولات التي فشلت فيها في اغتيال المزيد.
بل إن الاغتيال السياسي يشكل إحدى ركائز الكيان الصهيوني، وإحدى قواعد الصراع على السلطة داخل هذا الكيان (حتى لا ننسى إسحق رابين)…
لا تبرير للاغتيال السياسي، مبدئياً، إلا الرد على الاغتيال السياسي بمثله، ولا سيما أنه سلاح الطرف الأضعف في أي حرب (وإسرائيل هي الاستثناء هنا).
إنه خروج على »أصول« الحرب، يلجأ إليه، في الغالب الأعم، مَن تُعجزه الحيلة عن مواجهة عدوه في الميدان بسلاح يتكافأ قوةَ فعل مع سلاحه، ومع قوى دعم تتماثل مع ما يتمتع به عدوه من دعم مفتوح.
لكن الحرب الإسرائيلية المفتوحة على شعب فلسطين (والعرب عموماً)، منذ عقود طويلة، لم توفر سلاح الاغتيال السياسي، بل هي بالغت وما تزال في استخدامه حتى وهي أقوى دولة في منطقة الشرق الأوسط وخامس أقوى دولة (عسكرياً) في العالم، على ما تقول دعايتها عن نفسها.
بل إن إسرائيل الدولة تعتمد رسمياً وعلناً سياسة الاغتيال السياسي، وتستخدم في تنفيذ جرائمها أسلحة الطيران والبحرية والقوات الخاصة والصواريخ الموجهة والعبوات الناسفة والهواتف المفخخة والنساء الشقراوات (حتى لا ننسى إيهود باراك)…
أكثر من هذا: إن إسرائيل هي »الدولة« الوحيدة في العالم التي تصرفت وتتصرف في هذا المجال كعصابة، تتحدى »الدول المتحضرة« جميعاً في قوانينها، وتعترف بجرائمها، بل وتعلن مسبقاً عنها، ثم تتباهى بالدقة في إنجازها بعد تنفيذها.
لقد حوّل الاحتلال الإسرائيلي نتف الأرض الفلسطينية الممزقة التي »منحتها« للسلطة، إلى سجون محاصَرة بالموت، وأقفل مخارج النجاة (أو حتى الهرب) جميعاً بأن أسقط الهُوية السياسية عن مطالب هذا الشعب الذي يناضل منذ عشرات السنين لتثبيت وجوده ومن ثم حقوقه في أرضه، ويدفع يومياً، من دمه، كلفة هذا النضال قتلاً جماعياً أو اغتيالاً فردياً، وغالباً في مزيج من كليهما.
مزقت إسرائيل الاتفاقات التي عقدتها مع »السلطة« التي كادت تُتهم في وطنيتها وهي توقّع عليها، ثم وهي تحاول احترام نصوصها المبهمة، التي لم تصن حقاً ولم تحفظ دم أيّ من مواطنيها.
وأقفلت إسرائيل منافذ العمل السياسي حتى باتت كل الطرق تؤدي إلى… الموت!
لقد عاد الأمين العام للجبهة الشعبية، أبو علي مصطفى، إلى »فلسطين« بإذن إسرائيلي، ومارس نشاطه السياسي وهو يعرف أن عيون إسرائيل تتابعه وتحصي عليه أنفاسه. وكان مكتبه معروفاً ومكشوفاً. كان قد حسم أمره: أن يناضل سياسياً، من الداخل.
وحين أصابه الصاروخ الإسرائيلي وهو في مكتبه في الطابق الثاني، من المبنى المعروف والمكشوف، لم تكن لدى إسرائيل تهمة مباشرة توجهها إليه.
وليست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تنظيمَ »القاعدة«، ولم يكن أبو علي مصطفى يشبه أسامة بن لادن في قليل أو كثير. كان مناضلاً علنياً تحت راية سياسية مشرّعة للشمس، وبشعارات واضحة تماماً وصلت ذات يوم إلى أربع جهات الأرض، فاستقطبت أفواجاً من المناصرين لقضايا الحرية المستعدين للقتال من أجل تحرير الإنسان من الاستعباد، في أي أرض.
لقد اندلعت الانتفاضة، قبل عام ونيف، سلميةً تماماً، متخذة طابع الاحتجاج »المدني« على استفزاز عسكري سياسي ديني تباهى بارتكابه أرييل شارون، وسرعان ما حصد ثماره في الانتخابات، وها هو الآن يتسنم سدة القيادة في الدولة القائمة على الاغتيال.
إن الفلسطيني مقتول في الخارج، مقتول في الداخل. كأنما قدره مقبرة الصمت أو رشقة من الصواريخ تمزقه إرباً. كلما أكد هُويته اقترب من حتفه. حتى الأطفال يُقتلون حتى لا تكبر، فيهم وبهم ومعهم، فلسطين!
إنه الاغتيال السياسي الأول تُقدم عليه جهة فلسطينية.
لكن ماذا عن فلسطين التي اغتيلت سياسياً منذ نصف قرن أو يزيد، وما زال شعبها يطارَد بالاغتيال العلني، الذي كثيراً ما اتخذ شكل المجازر الجماعية في أكثر من أرض، في الداخل والخارج (حتى لا ننسى صبرا وشاتيلا).
إنه الاغتيال السياسي الأول »يرتكبه« الفلسطينيون. فليُغفر لهم هذا الخروج على »الأصول« في حرب تستهدف إبادتهم، سياسياً، على الأقل، ولا تبقي لهم إلا أن يتفجروا بقتَلتهم!
ومرة أخرى، إن المضطهَد يقلِّد مضطهِده… والبادئ أظلم، حتى لو كان يصعب تبرير الاغتيال السياسي، من حيث المبدأ.

Exit mobile version