طلال سلمان

مصير الغرب يتحدد هذه الأيام

شيء ما تغير في تصرفات السيدة أنجيلا ميركل بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ألمانيا. أتعبت معادنها أم بدأ يتخلى عنها شعبها أم أصابتها إصابة مباشرة إحدى قذائف الكراهية والعداء التي دأب الرئيس ترامب على إطلاقها على من لا يحب في أوروبا، وما أكثرهم. لم يخف ترامب يوما كرهه للمشروع الأوروبي ثم بالغ في إظهار هذا الكره في تصريح أخير له قال فيه إن الاتحاد الأوروبي أقيم ليستغل الأوروبيون الولايات المتحدة. ولما كانت السيدة ميركل في نظره صمام أمان هذا الاتحاد ركز الرئيس الأمريكي حقده عليها منذ أيام حملته الانتخابية ثم في أول زيارة قامت بها المستشارة الألمانية للولايات المتحدة بعد توليه السلطة.

لم يخطئ ترامب في حكمه على السيدة ميركل ودورها في أوروبا. ميركل أنقذت دولا في جنوب أوروبا لم تتحمل ضغط الأزمة المالية العالمية حين تدخلت بالقروض والترويج لقواعد التقشف والإصرار على وحدة وسلامة منطقة اليورو. ميركل ساعدت أكثر من مليون مهاجر على المكوث في أوروبا، وبخاصة في ألمانيا. وفي سبيل ذلك ونتيجة له دفعت ثمنا سياسيا غاليا. كان تدهور العلاقات مع إدارة الرئيس ترامب جزءا من هذا الثمن لأنه اعتبر موقفها من الهجرة تحريضا ضد أحد أهم بنود حملته الانتخابية، بل جعل وقف الهجرة أحد أهم معاول التغيير الذي يحلم ترامب بفرضه على المجتمع الأمريكي. من ناحية ثالثة كانت السيدة ميركل أول من نادى من الزعماء الأوروبيين المعاصرين بالاستعداد لإنهاء الاعتماد على الولايات المتحدة في قيادة الحلف الأطلسي بل وزعامة الغرب بأسره. اكتشفت قبل غيرها من ساسة أوروبا نية الرئيس ترامب التخلي عن مسؤوليات قيادة الغرب، بل وربما استشفت رغبة منه في طمأنة الرئيس فلاديمير بوتين بأن أمريكا تسعى إلى وفاق روسي أمريكي من فوق رؤوس الأوروبيين. شعرت بضرورة أن تسبق الرئيس الأمريكي فتعلن نية أوروبا الاستغناء عن قيادة أمريكا قبل أن يعلن ترامب نيته التخلي عن زعامة الغرب.

لا جدال في أن الفضل يعود للمستشارة الألمانية في وقف امتداد عمليات الانشقاق داخل الاتحاد الأوروبي. ألقت بثقل ألمانيا الاقتصادي والسياسي وبثقل تحالفها الوثيق مع فرنسا في صالح المفوضية الأوروبية. شجعت الرئيس ماكرون في جهوده لإقناع الدول الأوروبية على التوحد لاتباع سياسة دفاعية مستقلة وتصدت بكل قوة ممكنة لحملات ترامب ضد مبادئ وممارسات حرية التجارة وضد الأسس الأخلاقية لليبرالية الغربية. حاولت بصعوبة بالغة منع الرئيس ترامب وحوارييه من نشر أفكار ومناهج أنظمة لحكم أوروبا تعتمد الشعبوية نموذجا.
لم يخف ترامب دعمه للتيارات القومية المتطرفة في أوروبا منذ أيام حملته الانتخابية، رغم أنه كان يعلم علم اليقين أن هذا التشجيع من جانبه يمكن أن يدفع بأوروبا نحو مرحلة جديدة من الهوس والجنون القومي والعنصري في وقت كانت جماهير غفيرة من طالبي اللجوء والمهاجرين ينتمون إلى جنسيات مختلفة ويدينون بعقائد متبانية تندفع نحو القارة من جهات عديدة.

لا مبالغة في أنه بعد ثمانية عشر شهرا من حكم الرئيس ترامب والعواصف التي أثارها بتغريداته وتقلبات سياساته، يمكن القول إن دونالد ترامب، وليس أمريكا، حقق فوزا على السيدة ميركل. أكثر من هذا يمكن القول بدون تردد كبير إن ترامب وحملاته الشعبوية في معظم دول أوروبا مدعوما باختراقات روسية وصينية واضحة وعلنية تسبب في خسارة كبيرة لألمانيا. ألمانيا خرجت من آخر معارك السيدة ميركل الداخلية، والأوروبية أيضا، أضعف وأقل ثقة بنفسها. بدا هذا الوضع حقيقة لا تخفى في نتائج الانتخابات التي خاضتها السيدة ميركل وفي الجلسة الماراثونية لرؤساء دول الاتحاد الأوروبي في مقر المفوضية في بروكسل، وهي الجلسة التي خرجت منها السيدة ميركل مكسورة الجناح. في المناسبتين كانت الهجرة القضية التي رفضت ميركل تقديم تنازلات كبيرة فيها فكانت الصخرة التي يمكن أن تتوقف عندها مسيرة المستشارة ميركل أو تتحطم عليها خلال الأيام القادمة أحلام قادة الوحدة الأوروبية، وربما الغرب كله.

***

في سياق عادي كان يمكن أن نعتبر ما حدث في المفوضية الأوروبية وانتهى لغير صالح القوى الأوروبية الحريصة على مستقبل المشروع الأوروبي حدثا عاديا وما هى إلا أسابيع وتستعيد ألمانيا وفرنسا الحال إلى ما كان عليه. يعود اهتمامنا غير العادي إلى أننا نعتبر الحدث الأوروبي وإن بدا عاديا فإنما يحدث في سياق غير عادي. نعيد إلى الذاكرة وبسرعة المواقف والسياسات الأمريكية التي تبناها أو جهر بها الرئيس ترامب وأحدث بها شرخا بعد آخر في البنيان الغربي، هذا البنيان الذي هيمن على نشأة نظام دولي ومنظومة تجسده وحافظت عليه لسبعين عاما أو أكثر. نذكر بانسحاب أمريكا من اتفاق باريس للمناخ ثم رفضها الاستمرار في تنفيذ الاتفاق متعدد الأطراف الخاص بالأنشطة النووية الإيرانية وخروجها عن الإجماع الدولي حول مدينة القدس. نذكر أيضا بالسياسات الأمريكية في نقض مبادئ حرية التجارة وهي السياسات التي أشعلت شرارات نيران حرب اقتصادية عالمية نراها في أخطر حالاتها في كندا وأمريكا، الدولتان اللتان كانت العلاقات بينهما رمزا للتعاون بين الدول ونموذجا يدرس في مناهج العلاقات الدولية. نضيف إلى ما سبق شكوى دول أوروبية من دعم أمريكي معلن للتيارات المتطرفة التي صارت تهدد استقرار “النظام القائم” في دول أوروبية وفي أوروبا كمنظومة دول متجانسة. كان شرخا غير هين ذاك الذي تسببت فيه سياسات أمريكية فضلت التعامل مع حكومات “رجال أقوياء” على التعامل مع حكومات اعتنقت الليبرالية مذهبا من مذاهب الديموقراطية الغربية. عدد كبير من القادة الأوروبيين لن يغفروا لأمريكا قائد الغرب وحامية حمى عقيدته السياسية أنها سمحت لدول معادية ودول نامية صاعدة استخدام الديموقراطية معولا لهدم الليبرالية. تشوهت صورة بل وحقيقة الديموقراطية في ظل قيادة ترامب للغرب.

***

أمور أخرى تدخلت لتصطنع سياقا غير عادي لتطورات قد يثبت في الأيام القادمة أنها تهدد مصير الغرب، بل وأكثر. قد يثبت أنها تهدد الأمن والسلم الدوليين في الأجل الأطول. شاهدنا العروض غير القليلة التي قدمها بعض قادة مجموعة السبعة في مؤتمرهم الذي انعقد في مدينة كويبيك الكندية قبل أسبوعين. عرضا أو عرضين من هذه العروض لخصا في ثوان للمشاهد الغربي كما المشاهدين من الصين وروسيا وكوريا وعالم العرب الحال الرديئة للغرب على حقيقتها وبدون رتوش إعلامية أو سياسية. مر أسبوعان أو أكثر أبدع فيها الرئيس ترامب في تعميق نوازع الكره في الرأي العام الأمريكي وبخاصة لدى قاعدته الانتخابية المتطرفة عنصريا ودينيا. رفض بإصرار اتهام فلاديمير بوتين بالتدخل لصالحه في الانتخابات وأعاد تقديمه للأمريكيين في صورة الدكتاتور الجيد. خلط أوراق اجتماع سنغافورة الذي كان يمكن أن يكون علامة نجاح حتى أنه ظهر في نهاية الأمر منبهرا بكفاءة وإخلاص وصدق التزام الرئيس كيم، ولكنه ظهر هو نفسه في النهاية في صورة المفاوض الفاشل حين تعهد بوقف التدريبات العسكرية الأمريكية في كوريا الجنوبية مقابل لا شيء.

***

يجب أن نعترف أن السياسات الأمريكية في عهد دونالد ترامب، وأغلبها متناقض مع بعضه البعض، أحدثت تغييرات حقيقية. قد يثبت خلال الشهور القادمة أنها تغييرات جوهرية في مجمل العلاقات الدولية وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بعلاقات دول الغرب ببعضها البعض. الرجل الذي يعيب على أسلافه إنفاقهم على جنود في الخارج أرسل جنودا أكثر من الذين أرسلهم الأسلاف. الرجل الذي انتقد سياسات الديموقراطيين في الشرق الأوسط أفسد الأحوال في سوريا لجهل إدارته وانعدام خبرته الشخصية. الرجل الذي وعد بحل سريع للصراع العربي الإسرائيلي أشعل أحقادا جديدة بنقله السفارة للقدس وباعتماده على أفكار وأحلام لم تجد فرصتها لتنضج وربما أساءت إلى حلفائه في المنطقة. وعد بحل صراع فإذا به يسعى مع بعض الهواة لصنع شبكة من الصراعات الجديدة تنشغل بها شعوب الشرق الأوسط وتنسى الصراع الباقى أبدا.

***

كثير مما حدث ويحدث في العالم على يد الرئيس ترامب سوف يكون من الصعب أو المستحيل على خلفائه تصويبه أو تحسينه. لا نستطيع من موقعنا هنا ومن متابعتنا لأنشطته ومواقفه خلال عام ونصف التنبؤ بما سيفعل مع الرئيس فلاديمير بوتين في اجتماعهما بمدينة هلسنكى بعد أقل من عشرة أيام. نتوقع طبعا تصريحات تبرئ الرئيس بوتين من تهمة التدخل في السياسة الداخلية لدول الغرب وحربه ضد الديموقراطية. نتوقع أن نراه سعيدا باشتراكهما في كره الاتحاد الأوروبي وغيورا من الحدود المفتوحة لنفوذ وسيطرة الرئيس في النظام السياسي الروسي. هؤلاء، بوتين وتشي وكيم، هم في رأيه وبعين الحسد والغيرة «”ملوك” في دولهم حيث لا معارضة تقيدهم أو حرية رأي وصحافة “بذيئة وزائفة” تزعجهم.

في هذا السياق العالمي غير العادي لا بد أن تحدث أشياء غير عادية. ممكن أن يحدث مثلا أن الصين تستمر وبدون هوادة في توسيع وتعميق نفوذها استعدادا لتتبوأ موقعها المناسب في عام 2050. حلم الصين، وهو حلم الرئيس تشي، إطلاق مرحلة عولمة جديدة ولكن بصفات صينية. هناك في أمريكا من يعرف قيمة السياق الراهن ويتصور أن تستطيع الولايات المتحدة ببعض الجهد إقامة سلم أمريكي جديد يقوم على أساس شبكة من التحالفات “الشعبوية” المعقدة. الحديث في هذا التصور يطول.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

 

Exit mobile version