طلال سلمان

مصر اختناق سلام

ضاق »السلام« بأهله الأقربين،
.. ضاق حتى بات أقرب إلى الاختناق سلامù. وهذا طبيعي، ذلك لأنه بالأصل مفصّل على مقاس الإسرائيليين، بأطماعهم غير المحدودة، واستهانتهم الجارحة بالعرب أجمعين، كبيرهم والصغير، المشرقي منهم والمغربي، النفطي منهم والذي لا يملك ثمن قنينة كاز.
فهذا »السلام« إسرائيلي المولد والنشأة والسياق والاستهداف،
وإذا كان النظام المصري، على ضعف عصبيته، قد اكتشف هذه الحقيقة متأخرù فإن حركة التململ التي تتسع رقعة تعبيراتها ويرتفع بها الصوت احتجاجù، تؤكد أهمية هذا الاكتشاف، ولا يجوز أن يقلِّل من حجم الرعاية لهذا التململ المعبِّر عن »عافية« كامنة في مصر لم تستهلكها ضروب التفريط المتوالية.
منذ معاهدات كامب ديفيد وحتى اتفاق وادي عربة، مرورù بالمحطة السوداء في أوسلو، وإسرائيل تنجح في فرض »سلامها«،
»السلام« مع الأرض، والمزيد من الأرض،
»السلام« مع التفوّق العسكري، والمزيد من التفوق العسكري،
»السلام« مع الرؤوس النووية، والمزيد من الرؤوس النووية،
ثم: »السلام« مع مكامن الثروة العربية، أو ما تبقى منها،
وطبيعي أن يحصل العرب على »سلام« ما، بعد أن يسلِّموا بذلك كله!
فبعد أن تؤخذ منهم كل أسباب حياتهم، وليس فقط حقوقهم، سيكونون مجرد أشلاء ينعمون بما يشبه السلام الأبدي… ولن يكون على الراعي الأميركي حينذاك أن يتدخل، اللهم إلا إذا أراد أن يعطي شهادة الوفاة، أو أن يقوم بدور »البابا« في تتويج نابليون أمبراطورù على أوروبا!
إن الموقف المصري يحمل في ثناياه أكثر من خيبة الأمل في السياسة الأميركية، فهو يشكّل إدانة لسياسة الاعتماد المطلق على الأميركيين، ويقرع جرس الانذار محذرù العرب من التسليم بتلك النظرية البائسة التي اعتمدها أنور السادات والقائمة على القول »إن 99 في المائة من الأوراق في يد أميركا«.
وشتّان ما بين الرعاية أو الوساطة الأميركية وما بين الضمانة الأميركية.
لقد ثبت بالمحسوس ان واشنطن (لا سيما بإدارتها الحالية) لا تستطيع أن تضمن شيئù ترفض إسرائيل التقيّد به، كما أنها لا تستطيع أن تفرض على إسرائيل أمرù لا تقبل به تل أبيب، ولو كان جزئيù أو شكليù.
لا يحمي البيت إلا أهله، وبلحمهم الحي، غالبù،
ولا يحصِّل الحقوق إلا أصحابها، وبالصمود مهما بلغت أكلافه وليس بالتفريط الذي إن بدأ مسلسل التوغل فيه فإنه لن يتوقف عند حد.
ولعل هذه الصحوة المصرية التي لما تتكامل فصولاً تجيء دليلاً إضافيù على سلامة الموقف السوري واللبناني معه في خوض حرب التفاوض مع إسرائيل بوصفها »العدو«، وليس بوصفها »الدولة الصديقة« التي لا تطمح إلى ما يتعدى حسن الجوار.
إن إسرائيل تقول للعرب كل ساعة، وبدمائهم، إنهم »العدو«،
ولن تشطب إسرائيل من قائمة »العدو« مَن يوقِّع على اتفاق إذعان لشروطها، وهذه أرض فلسطين مضرجة بدماء شهدائها شهادة لا تدحض،
كذلك فهذه مصر التي تحاول من داخل »السلام الإسرائيلي« أن تستبقي مساحة للتنفس تواجَه بالاهانات اليومية وبمجادلات الاذلال المتعمَّدة التي تستهدف إلغاء دورها وتأثيرها ووزنها بكل ملايينها الستين،
وإذا كانت مصر تعاني من وطأة »سلام« يلغيها فكيف حال »الدول« الطارئة التي أقامتها »المصادفات« المتمِّمة للمشروع الإسرائيلي، وكيف حال »سلطة الحكم الذاتي« التي ارتضتها إسرائيل قوة شرطة أو حرس حدود إضافيù لحماية احتلالها؟!
إنه »سلام« يلغي مُوقِّعه!
إنه »سلام« يؤكد إسرائيل كدولة مركزية لكل هذه المنطقة، ما بين المحيط والخليج، وربما أبعد مدى من ذلك بكثير، في حين يلغي وبالكامل تلك الكيانات الهشة التي تفترض أنها تستولد نفسها مجددù بالتوقيع،
ولبنان شاهد، في هذا المجال، وشهيد،
فالسلام الذي وَعَدَنا به اتفاق 17 أيار كاد ينهي وجود لبنان، ولعلنا ما نزال ندفع فاتورته الثقيلة حتى اليوم.
وأخيرù فإن إسرائيل لم تهجر لغة الحرب، وها هي تعود إلى التلويح بها وعلى لسان كبار المسؤولين فيها، ودائمù من موقع »العدو«،
عدو الأمس واليوم والغد،
علمù بأنها لم تُسقط يومù منطق الحرب، ولا هي أوقفت حربها حتى مع الذين أخرجوا أنفسهم من الميدان،
ولبنان أيضù شاهد وشهيد، فهو يدفع يوميù ضريبة الحرب الإسرائيلية المفتوحة باسم »السلام«، سلامها، ومن أجله!

Exit mobile version