طلال سلمان

مصباح مقدسي نبيل خوري وداعا

… وكان لا بد أن تجيء ساعة الرحيل بعدما نفد الزيت المقدسي في »المصباح« نبيل خوري الذي قهره صمته المدوي على امتداد سبعة وعشرين شهراً، كان لديه الكثير ليقوله استكمالاً لرحلته الطويلة مع الكلمة المضيئة والتي امتدت نصف قرن حافل بالمآسي والانكسارات والانتصارات التي لم تصمد لأخطاء الداخل واعتداءات الخارج التي ضيّعت فلسطين وتكاد تضيّع أوطاناً عربية لا تقل »قداسة« عنها.
انكسر القلم في يد نبيل خوري عشية الانتفاضة الثانية، وهو الذي كانت مجلته »المستقبل« إحدى رايات الانتفاضة الأولى، بقدر ما كان صوته ينطلق عبر الأثير بالتنبيه والتحذير من دون أن يغفل الإشارات المبهجة التي تستحق أن تكون بشارة خير.
قبل »المستقبل« التي أصدرها في بيروت، بداية، ثم انتقل بها ومعها الى باريس ليصدرها ناجحة وصلة وصل ممتازة بين »المقهر« العربي و»المهجر« الفرنسي، كان نبيل خوري قد كتب كثيراً وفي ألوان متعددة من فنون الكتابة، بينها الرواية والقصة القصيرة والمقالات (الغاضبة عموماً)، دون أن يتسرب اليأس الى نفسه، ودون أن تغيب القدس، وبالذات حارة الناصرة فيها، عن مخيلته ولسانه وقلمه، ولشدة ما كان فلسطينياً فقد كان عربياً بامتياز.
ولأنه ثابت الإيمان بعروبته فهو لم يعرف المعاناة في ازدواج »هويته« وهل هو فلسطيني أم لبناني… بل لقد كان فوق ذلك مصرياً وليبياً ومغربياً وسودانياً وسعودياً وكويتياً، وسورياً بطبيعة الحال.
من »صوت أميركا« الى الإذاعة اللبنانية وانتهاء »بإذاعة الشرق«، مروراً »بتلفزيون المستقبل«، كان نبيل خوري داعية لقضيته لا يكل ولا يمل ولا يضيّع فرصة لتوسيع إطار الدعوة لها إلا وأفاد منها.
ومن مجلة »الحوادث« الى »الحسناء« فإلى »المستقبل« مروراً بصحف لبنانية وعربية عديدة، كان نبيل خوري هو هو: لا يبدل لغته ولا يبدل منطقه ولا يبدل إيمانه.
على أن نبيل خوري الشفوي كان ينافس باستمرار نبيل خوري الخطي..
لقد كان يتنافس في شخصه الإنسان الظريف، الودود، راوي النكتة الممتع وصاحب »القفشة« الموفقة، مع الصحافي اللماح الذي تسكره الفكرة البكر والجملة النابضة بالمعنى المضمر والكلمة التي تختصر كتاباً.
وكان بين قلة ممن يتباهون بإبداعات زملائهم، وكثيراً ما نقل الى مجلته كتابات »منافسين« مفترضين، بل وأخلى لهم أحياناً مساحة افتتاحيته.
وهكذا فإن هذا الرائد في إصدار مطبوعة ناجحة للقضية العربية خارج الوطن العربي وأسار حكامه لم يسكره نجاحه فيفقده اتزانه، ولم تأخذه المنافسة الى كراهية غيره من الناجحين ربما لأنه كان يفكر لقضيته وبها أكثر مما كانت تشغله نفسه.
عرف العرب جميعاً، مشرقاً ومغرباً، حاور المسؤولين، وسامر الكتّاب والمثقفين، ونادم الشعراء والفنانين، وكان العديد من مضيفيه في غير عاصمة عربية يتعاملون مع السهرة معه وكأنها »حفلة سمر« يدعى إليها الأعزاء من رفاق العمر… في حين كانت »ربات الخدور« يجلسن خلف حجاب ليسعدن بصحبة الرجل الذي كان ظرفه يصل إلى الذروة في الشفهي بعدما يتحرر من قيود الخطي.
نبيل خوري قلم لقلب كبير انكسر أمس،
ليست مبالغة أن نقول إن الصمت الإجباري قد قتله لأنه أشعره بثقل إضافي للهزيمة التي تُعجز الأمة عن الفعل الذي لا تغني عنه بحور الثرثرة التي تكاد تؤذيها بأكثر مما يؤذيها أعداؤها!
ويا أبا رامي: لست وحدك المرغم في صمته!
(نبذة عن الراحل الكبير وآثاره ص 18)

Exit mobile version