طلال سلمان

مصارحة سورية راي عام لبناني

تصريحات الوزير فاروق الشرع الأخيرة في القصر الجمهوري اللبناني ـ وآخرها تصريح الأمس ـ تعكس حرصا سوريا يجب تسجيله على احترام عقول اللبنانيين، عبر مصارحتهم الدقيقة بالجو والمدى اللذين آلت اليهما المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية وتحديدا في ارتباطها بالمسار اللبناني ـ الاسرائيلي.
حتى ليمكن الحديث الآن عن «روحية بعبدا» في التعاطي السوري مع الرأي العام اللبناني. اذ لا نظنها كثيرة تلك «الاسرار» التي عرفها المسؤولون اللبنانيون امس في لقائهم مع الوزير الشرع، التي تتجاوز ما عرفه الرأي العام اللبناني عبر تصريحات الشرع عن التقدم المباشر على المسار اللبناني عندما يحصل الاتفاق على المسار السوري، مثلما كان كلامه واضحا في الزيارة السابقة عن انتفاء الحاجة الى المقاومة عندما يتحقق الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي اللبنانية المحتلة.
بل ان «روحية بعبدا» من حيث المصارحة السورية هذه امام المنعطف التاريخي تذهب الى اكثر من الاسرار اللبنانية. فصحيح ان رئيس الوزراء الاسرائيلي شمعون بيريز سبق له ان تكلم بوضوح عن اهتمامه بالسلام اكثر من اهتمامه بالانتخابات (الاسرائيلية)، الا ان اشارة الوزير الشرع باسم سوريا الى موقف بيريز هذا وفي الوجهة السلمية، يكسب المسألة اهمية استثنائية.. لان التكريس يصدر هنا عن الدولة الرئيسية الآن في تقرير او عدم تقرير ما اذا كان السلام العربي الاسرائيلي سيتحول الى سلام شامل مع العرب او سيبقى مجرد اتفاقات «منفردة» مصرية، فلسطينية، اردنية.
ولعلها من المفارقات الكبيرة ان سوريا التي تختار هذا القدر من المصارحة للرأي العام اللبناني، اي هذا القدر من احترام حقه بالمعرفة، هي نفسها التي يضطر الوزير الشرع باسمها امس للتأكيد على ان لا احد يفاوض باسم لبنان.. حين يأتي وقت التفاوض الثنائي وحين تلح ضرورته.
المفارقة هنا تتجلى بأن سوريا في الواقع تفاوض فعليا باسم «العرب» كلهم، بالمعنى الذي تعيه تاريخيا لاهمية اتفاقها مع اسرائيل.
وحتى من الناحية العملية السياسية، لا المبدئية فقط، يجد المفاوض السوري نفسه، من جهة بسبب ترابط المسائل الامنية بين لبنان وسوريا، مفاوضا عن امن البلدين، ومن جهة ثانية بسبب ما تخلى عنه بعض المفاوضين العرب الآخرين، مضطرا لا شك لمعالجة بعض الجوانب «التقنية» ناهيك عن الجوانب السياسية لبعض الملفات «المتروكة».
فكيف لا تفاوض سوريا باسم الفلسطينيين في موضوع المقيمين الفلسطينيين على ارضها وبالتالي على ارض لبنان… هؤلاء الذين «نسيهم» عمدا اتفاق اوسلو. فهل تكون هذه المفاوضة ـ التي لا يمكن الا يتطرق إليها المسار السوري ـ الاسرائيلي ـ «مصادرة» لهذا الملف الفلسطيني، ام انها عمليا مطلب لفلسطينيي الشتات الذين يعلقون اهمية كبيرة على تولي سوريا هذا الملف اذا استطاعت.
«روحية بعبدا» تبدو بحجم التحدي المصيري الآتي. ألم تكن المصارحة، لدى البعض، مطلبا لبنانيا؟ فها هي تحصل في اللحظة المناسبة… التي تحترم حجم التحدي… وتحترم عقول اللبنانيين.
الوزير الشرع يذهب ابعد في المصارحة المسؤولة لا في المواضيع فحسب، بل حتى في التوقيت، الذي هو في العمل السياسي، ولا سيما في السياسات العليا «جوهر التحدي لكفاءة رجل الدولة» كما يقول هنري كيسنجر في كتابه «ديبلوماسية». فالوزير الشرع يحسم، امام اللبنانيين، قبل السوريين حتى، ان العمل جار على ان يكون العام 1996 هو عام الاتفاق… وهذا يعني ـ من حيث الاستنتاج المتاح لنا كمراقبين ـ ان «السر» الوحيد الذي لم يقله أمس الوزير الشرع هو ما اذا كان الاتفاق محتملا قبل الانتخابات الاسرائيلية او بعدها هذا العام! وهو سر لا يملكه طبعا الوزير ـ ولا سوريا ـ لانه يتوقف على مدى تحقيق الشروط السورية المبدئية والعملية بتحقيق سلام عادل وشامل…
والطريف ـ اذا جازت الطرافة هنا ـ ان سوريا التي يطالبها البعض بأن لا تفاوض باسم احد غيرها، هي نفسها التي يطالبها الاسرائيليون والاميركيون بأن تحمل الى السلام معها 20 دولة عربية دفعة واحدة.
وهي الدولة الوحيدة المطالبة بذلك بسبب حجمها النوعي في مصير عملية التسوية. فهل يعقل، والحالة هذه، إلا ان «تفاوض» سوريا من هذا الموقع القومي عن ملفات تعني العرب بكاملهم، كمصير القدس المحتلة… اكبر ملف مهمل في «اوسلو»، وهل يعقل ألا تكون حريصة على تأكيد موقفها من استعادة «القدس» في اي اتفاق.
انه هنا سر شائع ولا يحتاج الوزير الشرع الى قوله لنا.

Exit mobile version