طلال سلمان

مشهد عربي من دمشق

مع زيارة الرئيس الياس الهراوي الى دمشق، امس، والتي جاءت بعد يوم واحد من لقاء القمة فيها بين مصر وسوريا (في ذكرى وحدتهما)، وبعد أيام من انتهاء »التجريدة السورية« التي شملت معظم أقطار الوطن العربي، مشرقا ومغربا، يتبدى المشهد العربي أقل بؤسا وأقل قابلية للانهيار مما كان يبدو مع الاعلان المدوي عن »اتفاق الخليل« وتداعياته المحتملة بعد الرعاية الاميركية الحارة لبطليه »التاريخيين«..
وفي المشهد العربي، اليوم، ما يدل على ان الحملة لاعادة تظهير نتنياهو في صورة »المسالم«، والتي بلغت ذروتها عبر زيارته الاخيرة لواشنطن التي كادت تسلمه مفاتيح البيت الابيض والكونغرس وسائر المؤسسات فيها، لم تنجح في استقطاب احد من العرب الا المستقطبين والمتورطين سلفا، بالرغبة او بالاضطرار المرغوب، اي الملك حسين وياسر عرفات.
اما العرب الآخرون، اي الاكثرية الساحقة، وبرغم حرصهم على تجنب اغضاب الاميركيين، فهم في دمشق او انهم معها، يجهرون بدعمهم لصمودها، ومعها لبنان، ويقولون قولها بأن عروض نتنياهو وبينها »الامن مقابل السلام« و»لبنان اولا« و»العودة الى التفاوض مع سوريا واستطرادا مع لبنان من نقطة الصفر«، كلها افخاخ او كمائن منصوبة لاستفراد كل طرف عربي على حدة و»قنص« توقيعه، بما ينسف احتمالات »السلام« ويدمرها من قبل ان تولد.
وبعد »اتفاق الخليل« الذي تم برعاية اميركية مطلقة، وبالحاح مريب، اهتزت ثقة العرب عموما بنزاهة الادارة الاميركية وبدورها كوسيط شريف او كقوة محركة ناهيك بدور الراعي لمفاوضات التسوية العربية الاسرائيلية، والضامن الاساسي لنتائجها على قاعدة مؤتمر مدريد، خصوصا و»ان الجانب العربي، هو الذي فتح الطريق الى العملية السلمية في حين ان رئيس وزراء اسرائيل آنذاك (اسحق شامير) رفض مبادرة السلام الاميركية«، كما قال الرئيس السوري حافظ الاسد.
وان يجيء الرئيس المصري حسني مبارك الى دمشق، في الذكرى التاسعة والثلاثين (المنسية!) لقيام أول دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث، والتي جمعت آنذاك بين القاهرة ودمشق في خط هجوم وقائي لمواجهة المشاريع التي كانت تستهدف عروبة هذه المنطقة وفتح الباب امام اسرائيل للهيمنة عليها باسم »الشرق أوسطية« وعبر سلسلة الاحلاف الغربية الممزقة لهوية الأرض العربية وتاريخها…
ان يجيء الرئيس المصري الى دمشق، في هذا الموعد بالذات، يتجاوز الاعلان عن صدق العاطفة او الحنين الى الماضي المجيد، الى تأكيد الالتزام بموقف عربي موحد تجاه المخاطر التي تتهدد مجدداً سلامة الأمة ووحدة أراضيها، والتي لم يخفف منها »اتفاق الخليل« شيئاً بل لعله اضاف اليها، خصوصاً مع استمرار حرب الاستيطان التي هي لا غيرها تلخص في هذه اللحظة الصراع العربي الاسرائيلي، وتكشف كذب الادعاءات الاسرائيلية سابقاً وراهناً في الرغبة في »السلام« مع الفلسطينيين خصوصاً والعرب عامة.
واذا كان الرئيس الأسد قد طمأن بعض الصحافيين الذين توجهوا اليه بالسؤال بالقول: »لا تقلقوا من انعكاس اتفاق الخليل على سوريا«، فان الرئيس مبارك قد أضاف مؤكداً: »ان بروتوكول الخليل لن يشكل سابقة تحت أي ظرف من الظروف«.
وقد استدرك مبارك متخوفاً من وصول الوضع الى طريق مسدود نتيجة لمضي اسرائيل في بناء المستوطنات وفرضها كأمر واقع على الفلسطينيين داخل فلسطين مما قد يؤدي »الى نتيجة عكسية وخطيرة على عملية السلام«.
بالمقابل، فان الملك حسين كان مشغولاً يوم امس بالحفاوة بضيفه الكبير وصديقه الجديد بنيامين نتنياهو، في »حركة تضامن« بائسة، وفي الوقت ذاته كان وزير الحرب في حكومة التطرف الاسرائيلي، اسحاق موردخاي، يعلن عبر الصحافة الأردنية ذاتها ما يفيد بأن اسرائيل تريد الأردن جسراً لها لاختراق سوريا (ومعها لبنان طبعاً) والعراق، او لتطويقهما، (خصوصاً اذا ما انتبهنا الى علاقة التواطؤ المعلنة بين هذين الطرفين والضلع الثالث للمثلث: تركيا..).
ومع انه قد يكون من المبكر الحديث عن »تنظيف« الخليج العربي من »مواطئ القدم« التي كانت اسرائيل قد نجحت في كسبها هناك، فان التعهدات التي سمعها نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام ومعه وزير الخارجية فاروق الشرع من سلطان عُمان وامير قطر خاصة، اضافة الى تأكيد الالتزام الثابت للسعودية واليمن وسائر اقطار الخليج بقرارات قمة القاهرة، كل ذلك قد اوحى بأن مرحلة »الاجتياح الاسرائيلي« لبعض الخليج قد غدت من الماضي وانها الى انحسار سريع، لتعود الأمور الى طبيعتها الاصلية.
كذلك فان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد ابلغ المسؤولين السوريين الكبيرين انه بصدد وقف العلاقة مع اسرائيل، كلية، وانه لن يستقبل بعد اليوم أي مسؤول اسرائيلي، كاشفاً إنه في الأصل لم يوافق على دخول الإسرائيليين تونس إلا بطلب من قيادة عرفات، ومن أجل تسهيل أمر اللقاء بينها وبينهم، »لعل ذلك يفيد القضية«…
إذن فالمشهد العربي مطمئن، لا سيما بعدما تحجم الاختراق الإسرائيلي الجديد، فأسقط أوهام بعض العرب بمن في ذلك من كانوا يتعجلون الثمار المحرمة بأن نتنياهو هو المؤهل، ومن موقع المتطرف ولأنه فيه، بإنجاز سلام عجز عن إنجازه »المترددون« من قادة »حزب العمل« المتهم بالاعتدال!
وليس من شك في أن الموقف المصري كان أساسيا في وقف الانهيار العربي، وأنه شكّل الضمانة الكبرى لتأمين إعادة الالتفاف العربي حول صمود سوريا ولبنان.
وبعيدا عن عاطفة الحنين الى الماضي، فإن مناخ الحوار العلني الذي دار بين الرئيسين المصري والسوري في دمشق، أمس الأول، يعيد قدرا من الاعتبار إلى مفهوم التضامن العربي، كما يعيد التوكيد على المفهوم المقبول للتسوية، والأهم من هذا انه يبلور مجددا »مرجعية عربية« (ضلعها الثالث هو السعودية) مؤهلة وقادرة على المواجهة وعلى رفض ما لا بد من رفضه وتحديد ما يمكن القبول به أو الموافقة عليه (وهذا كله غير معروف حاليا..).
إن اللقاء المصري السوري المتجدد ينعش احتمالات العودة مجددا الى أفياء القمة العربية، ولو على قاعدة الحد الأدنى، ويطمئن أكثر من يطمئن اللبنانيين الذين تتناوب عليهم الطائرات والمدافع الاسرائيلية في غارات يومية، كما تتهاطل عليهم المشاريع المشبوهة والمواقف الملتبسة التي تحاول استدراجهم الى حيث يمكن للتطرف الإسرائيلي ان يستفردهم فيفجر بلادهم الصغيرة من الداخل.
في مثل هذا المناخ، يصبح مشروعا الافتراض أن الادارة الأميركية سوف تسمع من الرئيس المصري، في زيارته القريبة لها، ما يؤكد لها أن »نتنياهو الجديد« الذي تحاول إعادة تسويقه هو هو نتنياهو القديم (الرافض من قبل أن يكون مرفوضا)، وأنه يسحب من رصيدها لدى العرب ويضعف نفوذها لديهم، وأن تبنيها لطروحاته الملغومة لن يقرب موعد »السلام«..
ولن ينفع نتنياهو كثيرا أن يزيد من تنقله بين معبر أريتز (مع غزة) و»معبر« عمان (مع الملك) مفترضا أنه قد بات »السيد« المقبول بالفرض و»بطل« السلام بالأمر في هذه الأرض الحبلى بأسباب التفجر.
انه يتحرك، مع الأسف، في المدى الحيوي الاسرائيلي، لا هو يصل الى العرب بالسلام ولا هو يستقدمهم عنوة بالأمن أو بالمشاريع المفخخة مثل اتفاق الخليل وأشهرها »لبنان أولاً«.

Exit mobile version