طلال سلمان

مراجعة 13 نيسان… نقد الذات

لم يكن 13 نيسان/أبريل 1975 يوماً مفاجئاً لي. عندما غادرت منزلي في شارع أسعد الأسعد في الشياح، كعادتي كل صباح، متوجهاً إلى “السفير” في نزلة السارولا في الحمرا، كنت أرى في الشوارع والأزقة والأحياء الضيقة وجوهاً كئيبة وقلقة، فالناس تركض إلى يومياتها من خبز ومأكل ومشرب وملبس، وما لم يكن مُنتظراً أن يكون هذا تاريخ بداية حربنا الأهلية التي إندلعت شرارتها الأولى من شارع قريب من منزلي في عين الرمانة.

ما سبق 13 نيسان/ابريل هو تأسيس بكل معنى الكلمة لتلك الحرب، بمعنى أن فكرة الإنفجار الأهلي كانت شبه مُتيقنة لا بل مُنتظرة. فلقد كان الشرخ كبيراً بين اللبنانيين أنفسهم وبين فئة منهم وبين الفلسطينيين.

ولو أردنا أن نكون منصفين أكثر لقلنا أن التأسيس لتلك الحرب وضعت مداميكه الأولى في العاصمة المصرية عام 1969. إتفاق القاهرة كان بالشكل يُراد له أن ينظم علاقة ما بين الدولة اللبنانية ممثلة بجيشها وعماده إميل البستاني وبين منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بزعيمها ياسر عرفات (أبو عمار) بعدما ألقىت الثورة الفلسطينية بأعباء حضورها في المشهد اللبناني، ولعل هذا الإتفاق ساهم في تسريع الإنفجار بسبب لتداخل القضيتين اللبنانية والفلسطينية وتشابكهما وهو أمر ما يزال مستمراً حتى يومنا هذا.

ليس الوقت مناسباً لنكء الجراح ولكن من المفيد للأجيال الطالعة والمقبلة أن نقول إن فلسطين هي المقدس؛ القضية؛ والإرادة. ولأنها كذلك، كنا وما زلنا وسنبقى معها غير أن ذلك يستدرجنا إلى سؤال 13 نيسان اللبناني. تلك البوسطة البلا سلاح كانت مجرد ذريعة، فحجم التناقضات الداخلية كان كبيراً وقد بلغ ذروته، وما مرور “البوسطة” في عين الرمانة إلا ذريعة فهل كان هذا المسار ليوصلنا إلى فلسطين؟ حتماً لا. وإذا قبلنا بتلك المعادلة، فإنها حتماً تبعدنا عن فلسطين ولا تقربنا منها أبداً.

كان لبنان منقسماً على نفسه بقضاياه الكبرى (موقعه الإقليمي) والصغرى (الصلاحيات والتوازنات والسلطات إلخ..). ولعل خطورة لحظة عين الرمانة أنها جعلت كل لبنان على صورة هذا الحي، فالفلسطيني اللاجىء موجود في طرابلس والجبل (ضبية وتل الزعتر) وبعلبك وصيدا وصور وبيروت وكل شرارة في أي من هذه الأمكنة ستجعله على تماس مع كل البيئات اللبنانية، وهذا الأمر سيشكل خطراً على وجود الفلسطينيين وقضيتهم. ومن نافل القول أن حماستنا لقضية فلسطين بلغت حداً جعلنا ننظر إلى الأمور على طريقة الأسود والأبيض أو الـ”مع” والـ”ضد”، فكان أن غابت المراجعة والنقد وكدنا أن نُضيّع القضية. كان علينا أن ندرك أن تداعيات شرارة عين الرمانة ستصل إلى كل بيت لبناني وفلسطيني، وهذا ما حصل. مئات آلاف الشهداء والجرحى والمعوقين والمخطوفين والمفقودين والمهجرين والمهاجرين ودمار مدن وقرى ومخيمات إلخ..

لقد إختصر العنوان الفلسطيني كل تناقضاتنا، فصار إحساس المسلمين أن التصدي للنظام اللبناني الذي ظلمهم منذ تأسيس الكيان في عشرينيات القرن الماضي يكون بالإرتماء الأعمى في حضن الثورة الفلسطينية.. وصار إحساس المسيحيين بأنهم لا يستطيعون الدفاع عن إمتيازاتهم و”نظامهم” إلا بإختراع عدو خارجي لهم.. إلى أن أدركنا جميعاً أن العامل الفلسطيني صار عاملاً داخلياً مقرراً.. في لحظة تورم لبناني، فكان الإنفجار الكبير. صار السلاح الفلسطيني قوة للمسلمين وعنوان خوف للمسيحيين، فكان لجوء “الجبهة اللبنانية” إلى سوريا الرئيس الراحل حافظ الأسد، أي إستدراج عامل خارجي في مواجهة عامل خارجي آخر.

نعم، ربما حمّلنا جميعاً بلدنا لبنان أكثر من قدرته على الإحتمال. من إحتمى وإستقوى بالعامل الفلسطيني ومن قرر أن يستقوي بخارج آخر وصولاً إلى إسرائيل في العام 1982. وهذا الأمر يستوجب الإضاءة على نقطة جوهرية مهمة؛

نظامنا اللبناني في صلب تكوينه ولّادة إستدراج للخارج، أي خارج، إلى ساحتنا الداخلية. أكاد أقول أن من ركّب نظامنا ـ وليس اللبنانيون من ركّبوه حتماً ـ جعل في صلب تكوينه عاملاً مضمراً هو العامل الخارجي، سواء بحاجة كل طائفة إلى سند خارجي أو الإستعانة بخارج يتولى إدارة البلد وتقرير من يكون رئيساً للجمهورية وللحكومة أو من يُعيّن وزيراً أو نائباً أو مديراً عاماً أو ناطوراً وصولاً إلى صيغة البلد التي تجعل اللبنانيين عاجزين دائماً عن إدارة أمورهم، فيصبحوا مضطرين للجوء إلى الخارج، وهذه حكاياتهم مع كل المراحل التي تلت إستقلالهم الوطني الناقص حتى يومنا هذا.. من بشارة الخوري إلى ميشال عون.

إخترت أن أطل على مناسبة الذكرى الـ 47 للحرب الأهلية اللبنانية بشيء من النقد لعله يكون مدخلاً لأن نمنع حروباً جديدة يحاول البعض أن يهدد اللبنانيين بها.

أنا لست خائفاً من تجدد الحرب الأهلية، ذلك أن من يستطيع خوضها لا يريد ومن يريد أن يجر لبنان ويغامر ويقامر كعادته ليس قادرا. معادلة دقيقة وخطيرة وحساسة تكفي لكي نكون مطمئنين إلى سلم أهلي سيبقى ناقصاً إذا لم يحصنه اللبنانيون بالتوصل إلى صيغة جديدة، سياسية ـ إقتصادية ـ إجتماعية تفتح الباب أمام التغيير المنشود وتنهي حقبة من الفساد أورثت البلد ما أورثته من ديون وعجوزات، فكان الإنفجار الإجتماعي في 17 تشرين الأول/اكتوبر 2019..

صحيح أن لبنان لم يكن يوماً من الأيام دولة ولا كان مستقلاً ولا سيداً ولا حراً لكنه بموقعه الجغرافي وشعبه سيبقى عصياً على الفتنة وأهل الفتنة.

***

ختاماً؛ أقول للسيدة وداد حلواني وللجنة أهالي المخطوفين والمفقودين؛

حملنا في “السفير” قضيتكم منذ اليوم الأول لتأسيس لجنتكم في العام 1982، وتعرضنا إلى الرقابة عندما كنا ننشر أخباركم وقصصكم ولم نكن نتراجع.

لا تستكينوا ولا تتراجعوا. قضيتكم هي قضية كل لبناني ولبنانية.

تحية للسيدات اللواتي يحفرن بعزمهمن وإرادتهن وصلابتهن كل حرف من حروف الحقيقة.

التحية أيضاً للأهالي الذين رحلوا وصارت لهم شواهد قبور وما أدركوا حقيقة من خطف وقتل وإعتقل ذويهم. تحية لهؤلاء الغائبين الذين حسدوا أنفسهم وظلت غصتهم كبيرة لأنه لم يتوفر لأحبتهم شواهد وأضرحة كما توفر لهم!

Exit mobile version