طلال سلمان

مذكرة رئيس حول رحلتة اميركية

من حظ الرئيس ميشال سليمان انه سيشهد، خلال رحلته الأميركية، وبالعين المجردة، ملامح النهايات لعصر الهيمنة الأميركية المطلقة، مع اضطراب شامل في خريطة التحالفات والتوازنات التي تشمل منطقتنا بدولها كافة، الكثيرة عدداً والمشتتة موقعاً وموقفاً والمضيعة قيمة وتأثيراً.إنه يأخذ »إجازة« قصيرة من وضع متعب، لكنه قد يجد شيئاً من العزاء في أن معظم من تسببوا في الحروب في لبنان ومنه وعليه، وفي دعم الحرب الإسرائيلية، وفي تعميق الاختلافات بين أبنائه، وكذلك في تدمير دولة عربية عظيمة كالعراق، وفي اغتيال آمال الشعب الفلسطيني في دولة له فوق أرضه، يعانون من أزمات حادة بل إنها قد تكون مصيرية.ومن حق لبنان، بشخص رئيسه، أن يستشعر شيئاً من الثقة بالنفس، حتى لا نقول الزهو، بأن وطنه الصغير قد هزم بمقاومة شعبه، ومعه جيشه الذي يتحدر هو شخصياً من مؤسسته، جيش الدولة الإسرائيلية العاتية، وأفشل حربها المدمرة عليه في تموز ،2006 وأن تلك الهزيمة قد عجلت في فضح الأزمة الوجودية (؟) التي تعيشها إسرائيل بمؤسساتها السياسية والعسكرية والاجتماعية كافة، بقدر ما أكدت حق لبنان في الحياة وقدرة شعبه على المواجهة والانتصار.وبالتأكيد فإن ما سوف يلقاه من ترحيب وتقدير سيكون في كثير من جوانبه شهادة جدارة للمقاومة الباسلة التي اكسبت لبنان رصيداً معنوياً عظيماً يمكن توظيفه في تعزيز مطالبته بحقوقه في أرضه كاملة، وإخراج الاحتلال الإسرائيلي من تلال كفرشوبا ومزارع شبعا، فضلاً عن إلزام إسرائيل بوقف إطلاق النار (بدلاً من »وقف العمليات الحربية«،كما ينص القرار ـ المساومة 1701)، لأن الفرق عظيم ـ سياسياً ومعنوياً وعلى الأرض ـ بين النصين، فضلاً عن إلزامها بوقف طلعاتها الجوية على مدار الساعة فوق الجهات اللبنانية كافة.لا يعني هذا التوصيف ان لبنان في أحسن حال، ولكنه يعني إننا أمام فرصة تاريخية لتجديد بناء الدولة، بوصفها التجسيد العملي للوحدة الوطنية وضمانتها الأكيدة.إن إسرائيل تعيش أزمة خطيرة، لعلها تتجاوز السياسة بصراعات الأحزاب والأفكار والعقائد لتمس جوهر وجودها، فضلاً عن أسطورة أرض الميعاد، التي نعاها أحد غلاة المتطرفين فيها، ايهود أولمرت، عشية خروجه من السلطة مثقلاً بأعباء الهزيمة العسكرية في لبنان… هذا فضلاً عن أسطورة القلعة الحضارية ومركز التنوير في قلب »الشرق الأوسط« المتخلف إلى حدود الإعاقة، والممزق بالخلافات المتوالدة من ذاتها والتي تكاد تشمل ثوابت اليقين من الدين إلى الهوية إلى أساسيات التوازن النفسي وبديهيات الانتماء إلى أرض بذاتها، والحق في بناء الحاضر والمستقبل اللائق بشعوبها فوق أرضها ـ أرضهم.أما الولايات المتحدة الأميركية، القوة العظمى الوحيدة كونياً، فإنها معتلة، وقد تسببت إدارتها بقيادة جورج بوش، بتعريضها لاضطراب داخلي خطير عنوانه اقتصادي لكن عمقه سياسي بامتياز، خصوصاً ان المغامرات العسكرية الواسعة النطاق والمتعددة الجبهات قد استنزفت الكثير من الرصيد المعنوي (والمادي) الذي كانت تتمتع به هذه الدولة الأغنى والأوسع نفوذاً وتأثيراً في العالم أجمع.وهذه الإدارة بالذات قد لعب بعض رجالها دوراً قذراً في لبنان… ومن غير المعقول ان يرحل »الأصيل« مجللاً بالخيبة ودماء الشعوب المقهورة، ويبقى »الوكيل المعتمد« نافخاً أوداجه، مزركشاً بأعلام الحرب الأهلية ودماء ضحاياها الذين بلا حصر، مدعياً الانتصار للديموقراطية والاستقلال، فالصفحات السوداء لماضي الميليشيات الطائفية إنما تقدم صورة ناطقة لمستقبلها الموعود والذي لن تبدل فيه التوبة المتأخرة.ومنطقي ان يعيد بعض الحكام العرب حساباتهم، وان يعودوا إلى وعيهم، وان يقدموا مصالح بلادهم وأخوتهم على مصالح الأميركي الذي دمر واحداً من أعظم أوطانهم (العراق) وأقطع فلسطين لغلاة العنصريين تحت مسمى »دولة اليهود« تاركاً للفلسطينيين »خريطة طريق« إلى حرب أهلية بلا نهاية في ظل الشتات الذي لم يسبق ان تعرض له شعب بكامله، عبر التاريخ.فأما الجمعية العامة للأمم المتحدة التي سيقف الرئيس ميشال سليمان خطيباً على منبرها، قد غدت أشبه بمسرح صيفي، بلا سقف، يتناوب على منبرها خطباء آتون من أربع رياح الأرض، يشكون لمن لا يسمع، أو يعرضون أنفسهم وبلادهم للبيع ولا من يشتري… والكلمة الوحيدة التي يكون لها صداها هي التي يلقيها الرئيس الأميركي والتي تكون غالباً، بمثابة أمر عمليات للهيمنة الأميركية المطلقة على الكون، مع التهديد والإنذار والتلويح بالعقوبات لمن يعصي…وأما مجلس الأمن الدولي فمؤسسة عتيقة عفا عليها الزمن. لم يعد هذا المجلس أرض صراع بالفيتو السوفياتي (أو الصيني)، ذلك زمان مضى وانقضى ولن يعود.إن تجربة الاحتلال الأميركي للعراق ناطقة وهي شاهد بالدم على الهيمنة الأميركية المطلقة على هذه المؤسسة العتيقة: لقد احتل جورج بوش العراق بالقوة العسكرية، ودمر دولته تدميراً، ومزق وحدة شعبه فأعاده مذاهب وشيعاً وعناصر مقتتلة، في ظل حرابه… تاركاً لمجلس الأمن ان يستدرك الأمر بموافقة لاحقة!كذلك فإن تجربة لبنان مع الحرب الإسرائيلية ليست شهادة لمجلس الأمن بل هي عليه، لأنه اصدر ـ وبعد جهود خرافية! ـ قراراً ناقصاً، لا يدين الاحتلال ولا يفرض عليه وقف النار، بل انه كاد يجعل تدميره مقومات الحياة في لبنان »دفاعاً مشروعاً عن النفس«!!لم تعد روسيا إلى موقع الاتحاد السوفياتي (بعد؟)، ولا الصين في وارد الالتزام بالموقف العقائدي العتيق… مع ان الدولتين العظيمتين قد باشرا الاستذكار ان لهما حق الفيتو، وأن بوسعهما استخدامه وإن بحذر، وفي ما يخدم مصالحهما التي تفترق بالضرورة عن مصالح »الغرب«، وبالذات المصالح الأميركية.[ [ [يسافر الرئيس ميشال سليمان إلى القارة الأميركية، والأهم من مواعيده سيكون مع الرئيس الأميركي الذي يمضي آخر أيامه في البيت الأبيض، جورج. و. بوش.وصحيح ان سياسات الدول (لا سيما الكبرى) لا تنقلب رأساً على عقب مع انتهاء عهد وقدوم عهد جديد، إلا ان النتائج الكارثية لسياسة الرئيس الراحل قريباً، لا سيما في منطقتنا، ستفرض على الإدارة الجديدة بالتأكيد إعادة نظر وربما إعادة حسابات… وقد تمتد هذه المراجعة إلى بعض الدول العربية التي سارت في ركاب هذه الإدارة ذات التاريخ الدموي في منطقتنا، فتعدل من »تطرفها« في التعامل مع اللبنانيين وتقسيماتهم وتنويعاتهم السياسية (والطائفية) »فالأرض تحكم«، في نهاية المطاف. ثم ان اللبنانيين جميعاً لا يريدون إلا الخير للعرب جميعاً، مهما اختلفوا في الموقف السياسي مع بعض حكامهم… وهو خلاف لا يصل إلى إنكار الأخوة ووحدة المصير.ويمكن ان يتبدى بعض التعديل في المواقف عبر تشجيع الحوار ـ القديم ـ الجديد الذي دشنه الرئيس سليمان ثم أرجأ جلساته لعل الفترة الفاصلة بين موعديه تكون كافية لمراجعة المواقف أو تعديلها لما فيه خير اللبنانيين والعرب، في كل أرضهم… وهي حبلى بمثل ما ذهب بطمأنينة هذا الشعب واستقراره، وكل يعرف ما يعتمل داخل مجتمعاتهم من عوامل التفجير.يسافر الرئيس ميشال سليمان على جناح الأزمة السياسية المفتوحة، بعد، في لبنان، وإن كانت ضغوطها قد خفت نسبياً، ولكنها ما تزال قائمة ومنذرة بالخطر، خصوصاً في ظل الحمى الانتخابية التي بدأنا نشهد بعض مقدماتها… وهي »المعركة« التي سيجد العديد من المرشحين في الشعار الطائفي أقصر الطرق للفوز فيها… ولا يهم بعد ذلك أن تسقط البلاد ودولتها جميعاً.وعسى الرئيس يعود موفقاً…وعسى يمكن استئناف الحوار في جو صحي يمكن لبنان من الوصول ـ أخيراً ـ إلى شاطئ السلامة!

Exit mobile version