طلال سلمان

مدن في حياتي

عشت في القاهرة مرحلتي الطفولة والمراهقة وبعضا بسيطا من  مرحلة شبابي وجل مرحلة الكهولة. ارتحت لها، وأقصد القاهرة كمدينة ومحل إقامة، وأظن أنها ارتاحت لوجودي فيها. أحن إليها وأنا فيها وأحن إليها وأنا بعيد عنها. القاهرة ومدن عديدة، بالعيش فيها، نجحنا في أن نصنع معا سيرا تستحق أن تروى. مدن أخرى لم نفلح إلا في إقامة علاقات عابرة . كلانا، كما اكتشفنا لاحقا، كان لديه الكثير من الظنون والشكوك حول الظروف التي جمعتنا وتلك التي فرقتنا.

***

نشأت على يد رجل يعشق الحركة والتجول في أنحاء القاهرة، المدينة التي ولد ونشأ وتزوج فيها وأنجب أولاده الأربعة وأنا ثالثهم. أكاد لا أذكر يوم جمعة قضاه الوالد إلا ممسكا بيدي نقطع الطرق مشيا من حي في القاهرة إلى حي آخر. بل وأذكر رحلات قمنا بها معا وأنا ما زلت دون العاشرة نجوب مدنا مثل الإسكندرية وكفر الشيخ وبنها وبني سويف والمنيا والفيوم. نصلي الجمعة في أهم مساجدها وفي مقدمتها المساجد ذوات التاريخ، تاريخ ساكنيها من الأولياء أو تاريخها في حروب المماليك والفرنسيين وغيرهم من الغزاة والحكام، أو تاريخها في ثورة سعد زغلول ورفاقه.. بعد الصلاة نزور المواقع الأثرية وبعد الغداء نتمشى على الكورنيش والشوارع الأنيقة حيثما وجدت. من حسن حظه وحظي أن تكليفات دورية كانت تصدر إليه من رؤسائه للتفتيش في عواصم المحافظات على سير العمل في المصالح التابعة للوزارة التي كان يعمل فيها.

***

حرص الوالد منذ أول سنة دراسية على أن أنضم لفريق الكشافة في مدرستي الإبتدائية ثم الثانوية وأن لا أتخلف عن المشاركة في أي رحلة للفريق أو في غيرها من الرحلات المدرسية. وبالفعل أظن أنه لم تفتني رحلة واحدة. عندما تركت المرحلة الثانوية كنت قد اشتركت في معسكرات أقيمت في الأقصر وأسوان ثلاث أو أربع مرات وبالرحلات المدرسية والعائلية زرت العريش وبورسعيد والسويس ومختلف مدن وبعض قرى وسط الدلتا والزقازيق والمنصورة والقرى القريبة من كل منهما. وعندما تركت الجامعة كنت قد زرت من المدن على طول الساحل الليبي طبرق وطرابلس الغرب وما بينهما، ومن المدن السودانية الخرطوم وأم درمان والأبيض عاصمة وعروس كردفان وغيرها من مدن في الجزيرة والجنوب والشرق حتى بورسودان، ومن مدن فلسطين أقمنا معسكرا في غزة، أقربها في الجغرافيا وإلى القلب.

***

تخرجت والتحقت بالسلك الدبلوماسي ليبدأ موسم الرحلات العظمى. بدأ برحلة نيودلهي وفي الطريق إليها أقمت أياما، مجبرا أي غير مخير، في بيروت، المدينة التي أعرف أنها لم تمل من رؤيتي واستقبالي واحتضاني ولا من صحبتي الطويلة أحيانا على امتداد أكثر من ستين سنة. عدت إليها بعد أقل من عام لنحصل أنا وزوجتي لزواجنا على مزيد ضروري من الشرعية توفرها لنا قيادات الطريقة الشاذلية في جبل لبنان.

أقر فورا وأعترف أنني بادلت بيروت حبا لم أتبادل في مثل صدقه ودفئه وديمومته حبا لمدينة أخرى في العالم، غير القاهرة طبعا. الحديث عن بيروت يطول ويعجز الحيز المتاح لي في هذه الصفحة عن نقله ويعجز القلب عن استيعاب ما طرأ علينا، بيروت وأنا والعلاقة بيننا، في السنوات الأخيرة من تحولات في الشكل وفي الجوهر. كلانا الآن يخشى من تداعيات صدمة يتسبب فيها لقاء أخير، ولعله بين ما يفسر تباعدنا المتعمد.

***

توقفت طائرتنا في الكويت في طريقها إلى الهند. كان أيضا اللقاء الأول بيننا، ولم يكن شافيا ولا مريحا. أتحدث عن رحلة في منتصف القرن الماضي. وصلنا أوائل الليل فأنزلونا في فندق هواؤه غير مكيف وغادرنا أوائل النهار. عدت مرارا إلى الكويت ضيفا على مؤتمرات أقمت من خلالها صداقات معمرة تطورت وتعمقت في بيروت وجبل لبنان وفي القاهرة.

رأيت بومباي، قبل أن يعيدوا لها اسما كان لها قبل وصول موظفي وجنود شركة الهند الشرقية، رأيتها أولا من الطائرة. كان أول ما رأيت لأتفاءل “كورنيش” وبحر. لم يطل تفاؤلي. تجولت في المدينة، وبدقة أكثر، تجاسرت فرحت أغوص في عمق آسيا. مشيت كثيرا مع والدي وبدونه في شوارع مصرية مزدحمة، مشيت في الموسكي والصاغة والغورية في القاهرة الفاطمية وفي زنقة الستات في منشية الإسكندرية، الزحام فيها جميعا غير زحام السوق في بومباي. الزحام في أسواق بومباي ودلهي وكلكتا ورانجون وبانجكوك وفي كولومبو يختلف في كل المعاني عن الزحام في الأسواق العربية التي مشيتها رائحا غاديا مرارا وتكرارا. زحام السوق العربية في تونس والرباط والدار البيضاء وأسواق القصبة في الجزائر يختلف عن أي زحام آخر، فللزحام الآسيوي في ذلك الوقت نكهة خاصة ولكن متفردة ورائحة لا تجارى.

خرجت من جولاتي في الأسواق الشعبية، عربية كانت أم آسيوية، باقتناع ربما سبقني إليه غيري. هناك في هذه الأسواق يستطيع المؤرخ أن يمتحن معلوماته عن تاريخ شعب، ويستطيع عالم الاجتماع السياسي أن يحكم باطمئنان على عدل أو ظلم الحاكم وعماله، ويستطيع عالم الأخلاق والفيلسوف أن يتعرف على، أو يجدد ما وصل إليه أسلافه من معلومات عن، حال السعادة في البلد.

***

كان حلما وتحقق. كنت أحلم بيوم تسمح فيه ظروفي أن أرى بنفسي وليس عن طريق كتاب أو ألبوم صور كيف كان يعيش ممثلو جلالة إمبراطورة بريطانيا العظمي في الهند، جوهرة إمبراطوريتها. تحقق نصف الحلم بوجودي جسديا وروحيا في نيودلهي الضاحية التي تحولت على يد ممثل الإمبراطورة إلى عاصمة شتوية ومركز للحكم. بقي لي أن أسعى لأتعرف على العاصمة الصيفية للحاكم الإنجليزي في سيملا، وأحيانا تكتب شيملا. تحقق نصف الحلم حين انتهزت فرصة إجازة قصيرة فانتقلت قاصدا منتجع ماسوري على سفوح الهمالايا مستخدما حافلات هالكة وسائقين شهدت لهم بالمهارة ولنفسي بالتهور.

تركت نيودلهي ودرجة حرارتها تناهز الأربعين فما فوق وصلت سفوح الهمالايا ودرجة حرارتها في ذلك اليوم تتراوح بين الصفر والخمسة. أذكر جيدا أننا توقفنا لبعض الوقت في مدينة دهرادون في الوادي الصاعد نحو ماسوري وما بعدها. مدينة لا يستطيع الزائر للهند إلا أن يقارنها بعشرات بل ومئات المدن الهندية المتناثرة على امتداد شبه القارة الهندية، كلها متشابهة في الفقر والملبس وإن اختلفت في اللغة والدين. كنت في الهند في الخمسينيات من القرن الماضي والسؤال نفسه الذي سألت وظل يتكرر، ألم تحاول أي من الإمبراطوريتين المغولية والبريطانية تحسين أحوال هؤلاء الناس، أم حاولتا وفشلتا؟.

***

نسيت الكثير ولكني لم أنس منظرا في مدينة أخرى من أشهر مدن الهند لم نقض فيها إلا ساعات معدودة. هي كلكتا عاصمة البنغال الغربية، واسمها الآن كولكاتا نسبة إلى كاليكاتا إحدى القرى القديمة التي أقيمت عليها عاصمة الإمبراطورية. وصلتها عصر يوم فكانت فرصة أن أرى المدينة التي كثيرا ما سمعت وقرأت عنها فهي مسقط رأس الشاعر طاغور الحاصل على جائزة نوبل في الأدب. أسستها شركة الهند الشرقية وكانت عاصمة للهند البريطانية حتى عام 1911. اشتهرت بصفات البهجة والمرح وما تزال حتى الآن العاصمة الثقافية للهند. حملتنا السيارة من المطار إلى شارع أوروبي الهندسة والمحلات التجارية والفنادق الكبرى وإحدها كان الفندق الذي كان مقررا المبيت فيه حتى ساعة مبكرة من اليوم التالي. عند العصر انتهزنا فرصة انكسار الشمس فخرجنا إلى الطريق نتجول فيه وشربنا الشاي في أحد مقاهيه الفخمة. عدنا إلى الفندق مبكرا للعشاء والنوم استعدادا لمغادرته في فجر اليوم التالي. عند الرحيل خرجنا إلى الطريق ومعنا حقائبنا لنجد الرصيف على ناحيتي الطريق مرصوصا بمئات أو آلاف الأفراد النائمين، عائلات بلا مأوى اختارت أرقي طريق في المدينة لتقضي الليل على جنباته. انتابني شعور معذب لم يختف تماما ربما حتى ساعة كتابة هذه السطور. شعور له سمات أيديولوجية راود، ويراود، كل من اختار الدبلوماسية مهنة ومستقبلا.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version