طلال سلمان

مدخل إلى مناقشة الإرشاد الرسولي

لن تنهي زيارة البابا الجدل المستعمر في لبنان منذ ولوجه عصر »السلم الاهلي«، وبالتحديد داخل الاوساط المسيحية حول الاستننكاف والتهميش والظلم والاحباط وتناقص الدور والغبن الذي حجم مشاركتهم في السلطة، وقد كانت تقريبا امتيازا لهم.
لا يكفي قداس استثنائي الحشد وموعظة حسنة وارشاد رسولي فضفاض الصياغة ومفعم بالنوايا الطيبة والحض على الاعتدال، لاحداث انقلاب جذري في المشاعر، او لمسح اثار التعبئة الممتدة والمتفاقمة طوال سنوات العزلة، فكيف وكل ذلك لا يعوض خسارة المواقع الممتازة وذلك الاحساس المبالغ به بالتفوق بل وبالفرادة المعترف والمسلّم بها دوليا؟!
وليس عدلا ان نفترض ان الذين استمعوا قد اقتنعوا فندموا واعترفوا بالخطأ وغيروا مواقفهم فورا، طالبين المغفرة عما تقدم من ذنوبهم والخطايا.
كذلك فمن المحتمل ان يكون »الشريك المسلم« قد اساء فهم الرسالة، فعزز يقينه »بانتصاره« الموهوم، وافترض ان البابا قد انحاز الى مطامحه على حساب المسيحيين وقياداتهم »المتطرفة«، في الحرب كما في السلم!
ومن المحتمل، ايضا، ان تخطئ الدولة التقدير فتحاول استثمار هذا الاعتدال البابوي بطريقة انتهازية تكرسها كطرف بدل ان تفيد منه لاستعادة موقعها الطبيعي كمرجعية وطنية شاملة واخيرة، هي المسؤولة عن اقامة العدل وعن تحقيق المساواة وعن حماية حقوق الانسان، بتعزيز المؤسسات والديموقراطية وسائر الضمانات التي توفر لمواطنها شعوره بكرامة الانتماء.
وانه لامر خطير ان ينقسم اللبنانيون، مرة اخرى، حول الارشاد الرسولي، ومن ثم حول البابا يوحنا بولس الثاني نفسه، فيحتسبه المسيحيون، والموارنة منهم بشكل خاص، على المسلمين، ويأخذون عليه »انحيازه« او غربته او عجزه عن فهم مطالبهم، ويسانده بالمقابل المسلمون وهم الذين كانوا الى ما قبل ايام قليلة، ومعهم معظم »المسيحيين العرب« يجهرون بتحفظاتهم على موقفه من اسرائيل عموما ومن »يهودية السيد المسيح«، على وجه الخصوص.
ان نقاشا واسعا وغنيا ومتعدد المستويات سيدور انطلاقا من زيارة البابا والارشاد الرسولي الذي حمله الى لبنان مفترضا فيه القدرة على صياغة حلول نهائية لاشكال العلاقة بين مسيحييه ومسلميه من جهة، ثم لعلاقة مسيحييه بمنطقتهم العربية حاضرا ومستقبلا، وكامتداد لماضيهم الراسخ فيها، من جهة ثانية.
على ان ثمة امرين جوهريين يمكن تسجيلهما كاستنتاج اولي وسريع من القراءة المتعجلة للارشاد الرسولي ومن استشفاف الروح التي املته، هما:
} الاول انه يدين منطق الحرب الاهلية، بالمطلق، ويحرمها تحريما لا رجعة فيه، بوصفها اضافة الى كل شرورها وتدميريتها الانتحارية مصدر خطر حقيقي على الوجود المسيحي في لبنان والمنطقة العربية بكاملها.
ولا يعني هذا بأي حال ان الحرب الاهلية تحمل نفعا للمسلمين، فهي الشر المطلق على الجميع، ولكنها بالنسبة للمسيحيين تعني ايضا المقامرة بالمصير والانتحار العبثي، اضافة الى كونها تهديدا للوجود العربي والمستقبل العربي فوق كامل الأرض العربية.
} الثاني انه يحرم على المسيحيين القفز من فوق المسلمين طلبا للصلح مع الاسرائيليين.. وهو، وان لم يستخدم لفظة التحريم، الا انه رفض منطق التفرد، وأدانه، وألح على ان يلتزم المسيحيون في لبنان، وسائر المسيحيين العرب، بموقف اخوتهم العرب المسلمين، فيصالحون من ضمنهم اذا ما صالحوا، ولا ينفصلون عنهم او يتقدمون عليهم او يسابقونهم على هذا الطريق الملغوم.
لكأن البابا يقول للمسيحيين: ان الفاتيكان تصرف كدولة، في اعترافه بإسرائيل، ولستم ملزمين بأن تنهجوا نهجه، اما انتم فتلتزمون بما تقرره الاكثرية في بلادكم، فلها القرار وانتم منها ومعها وفيها ولستم خارجها، بأي حال ولأي سبب.
.. مع التمني بألا يكون مثل هذا الاستنتاج قراءة بالرغبة، أو تسرعا غير مبرر، او اسقاطا للتمني على نص هو بطبيعته »حمّال اوجه«؟!
طلال سلمان

Exit mobile version