طلال سلمان

محمود درويش والرحلة البتراء..

محمود درويش في دمشق: الياسمين ينثر عطره شعراً في الطرقات.
… والعطر محبوس في قمقمه منذ »المداهمة« الاولى قبل ربع قرن، حين اصطدم محمود درويش بدمشق لأول مرة، فانحطم مخزون الذاكرة ولم تستطع المدينة العتيقة ان تغري بجديدها هذا الذي يريدها في عينيه مطابقة لما في أذنيه وذهنه وتخيلاته وأحلام الأمجاد الأموية.
لم يكن لليل »الدولتشي فيتا«، على الروشة، نهاية، لكن عقارب الساعة كانت تتقدم نحو منتصفه، حين وقف رسام مصر العظيم عبد الغني ابو العينين ليقول: عليّ أن أذهب لأنام، مع الصباح الباكر سأقصد دمشق لاستقبال رعاية..
كنا جميعا نعرف زوجته رعاية النمر، احدى الاعظم نشاطا وحضورا وإيمانا بالناس وصاحبة الدور المجيد في تأسيس »قصور الثقافة« في مصر..
التفت إليّ محمود درويش وأطلق الرصاصة الأولى: فلنذهب الى دمشق جميعا، والآن فورا. لم أر دمشق بعد، وانني أتمنى ان أراها بهدوء، ومن دون مراسم احتفالية واستقبالات وعواطف حارقة الى حد الاستفزاز.
ركبنا »الداتسون« الصغيرة الحمراء، ومعنا نايف خير الدين. مررنا بالبيت لإبلاغ الزوجة بالمأمورية، ودرجنا على الطريق الضيق المضاء بقمر أيلول والشوق.
عند الحدود، كان على محمود درويش ان يخضع لأقسى استجواب وطني تعرض له على امتداد حياته التي كانت حتى تلك اللحظة تختزل في الشعر والاستجوابات والسجن والإفراج تمهيدا لتوقيف جديد في الفترة بين قصيدتين.
قال الفتى الفلسطيني »المسؤول« من طرف »الكفاح المسلح«، وهو جهاز يماثل الشرطة العسكرية في الجيوش النظامية: هل أنت محمود درويش، الشاعر؟!
كانت البطاقة في يده بالاسم الصريح، وكان محمود يقف أمامه منضبطا وقد اندثر غروره وتلاشت عنجهيته الاستفزازية واختفت مخالبه التي طالما أنشبها في وجوه اصدقائه قبل خصومه.
قال محمود: نعم، أنا هو،
قال الفتى الفلسطيني بنبرة جازمة: أنت خائن! كيف تخرج من الأرض؟! نحن نبذل أرواحنا على بابها في محاولة للدخول، وأنت تتركها لليهود وتخرج منها! هل جئت لتكون بطلا بيننا؟! لو ان الأمر لي لأمرت بمحاكمتك!
توارى محمود العدواني، الشرس، المهاجم أبدا، المشمئنط والذي لا يعجبه العجب، وبرز »محمود« آخر، هادئ، محاور بلهجة المذنب وإنما بعذر، المبرر نفسه مع طلب الرأفة وتفهم حالته في الداخل التي كانت قد صارت عبثية: لقد استنفدت نفسي! أفيق على الشرطة في الصباح، انقل الى السجن، أبقى أياما ثم أطلق ليعودوا الى توقيفي بعد ساعات أو أيام. لم يعد للسجن معنى، لم تعد للمقاومة بالشعر اي معنى. صرت أحس ان عمري يهدر بغير جدوى. وتوصلت الى يقين بأني في الخارج قد أفيد قضيتي اكثر. خرجت لأبقى في الأرض، لأن بقاءي داخلا تساوى مع العدم.
لم يقتنع الفتى الفلسطيني تماما، ولكنه استمع جيدا الى حيثيات محمود درويش حول الخروج من المكان ليبقى في الارض، وحول الخروج بالقضية الى العالم بدلا من العراك المفتوح داخل زنزانة انفرادية حيث يضىع الصوت وصداه من دون ان تتقدم القضية او تفيد من ذلك.
عندما اطلق الفتى الفلسطيني سراحنا صرخ بي محمود: هيا بنا الى دمشق، لا أصدق انني اخيرا سأصلها ويصفق لي بردى،
بلغنا دمشق حوالى الثالثة صباحا. لم نجد غرفا في فندق أمية، ولا في سميراميس، ولا في اورينت بالاس، وبالكاد رضي المناوب في فندق »قطان« ان يستقبلنا. (لم يكن قد بني فندق الميريديان او فندق شيراتون).
كان محمود متعجلا ان يرى »بردى«، والوقت اواخر أيلول، ومعرض دمشق الدولي في نهاياته، والمجرى الحزين للنهر الذي يتغلغل كالدم في شرايين اعتق مدن الأرض يكاد يكون فارغا الا من نفايات المعرض بأجنحته العديدة وجمهوره اللجب.
أين بردى؟! الا نستطيع ان نراه الآن؟!
كانت صورة نيل القاهرة تطل من عينيه كلما ذكر بردى الشام،
بالكاد اقتنع ان يتركنا ننام لساعة او ساعتين، وريثما يطلع ضوء النهار. وفي الخامسة صباحا كان يقف بباب غرفتي وهو يصرخ: خذني الى بردى!
تقدم الى النوافذ ففتحها، وكانت »جثة« بردى مشلوحة تحتها، بين الصفصاف وشجر الدلب وقد فاض المجرى بعلب الكرتون والمهملات وكل ما استنفد معنى وجوده في أجنحة المعرض. وحدها مياه النهر كانت غائبة عن مجراه المصفح بالاسمنت.
ارتسمت الفجيعة على وجه محمود درويش. وسمعت حشرجة فهمت منها: أهذا هو بردى؟! وكل تلك القصائد والمعلقات؟! لا يخلو ديوان لشاعر كبير من ذكر لبردى، ومن تحيات لبردى، ومن غزل ببردى.. أهذا حقا هو بردى، أم انكم تخدعونني؟!
هتفنا لفيصل حوراني، فقام بدور صناجة العرب. ومع شروق الشمس كانت دمشق جميعا تحضر نفسها لاستقبال فتاها الأغر محمود درويش… وكان فيصل قد جاء بعد استنفار حسين العودات وياسين شكر وحميد مرعي وعبدالله حوراني وآخرين.
اقترح »الخبراء« جولة سياحية لمحمود درويش في دمشق القديمة.
مشى محمود بيننا كالأسير، ثم استعاد جوارحه جميعا: ما هذا القرف؟! طرقات وسخة! بغال! غبار، تراب، ازدحام، كيف يعيش الناس هنا؟!
ضاع الشرح التاريخي، وضاعت القيمة الأثرية للأمكنة التي ولدت الحضارة، وضاع رشد »الرفاق«، لكنهم لم يكونوا يملكون الا الصبر على الشاعر الرمز الذي نقشت قصائده المقاومة اسمه في وجدانهم منذ زمن بعيد، والذي احبوه من قبل ان يعرفوه.
الى قاسيون، لكي يطل على دمشق من فوق فيراها وهي تنداح بين الغوطتين، ولكن محمود درويش كان قد أقفل عينيه وأذنيه وغرق في لجة من الخيبة والمرارة والملل، وصمم على مغادرة الشام فورا.
جاء من يبلغنا ان النصاب قد اكتمل، وان وزير الثقافة آنذاك (الدكتور فوزي الكيالي) قد وصل ومعه رهط من المثقفين والكتاب والمهتمين والمعجبين بمحمود درويش الى فندق سميراميس الذي حجز بكامله تقريبا للضيف الكبير.
أمام الفندق كانت تنتظرنا تظاهرة، اما داخله فكان أصحاب الاسماء اللامعة من أهل الثقافة والفكر والنضال القومي يحتشدون للتبرك بمصافحة محمود درويش.
بدأت المناقشة حول برنامج الاحتفال بوصول محمود الى دمشق بينما محمود يصر عليّ أن نغادر فورا عائدين الى بيروت.
كان الحب يشعشع في أجواء الفندق، وكانت فلسطين تزهر ياسمينا، وكانت دمشق تحنّي كفيها احتفاء بالمناسبة، وكانت القلوب ترف من حول محمود درويش وتحتضنه.. وكان كبار المتحدثين والشعراء يلتفون حوله وتتعثر ألفاظهم بعواطفهم فيحملون عيونهم وأيديهم ما يعجزون عن التعبير عنه كلاما.
انتظمت المساومة، تحت التهديد بالفضيحة، على ان يقبل محمود درويش دعوة وزير الثقافة الى الغداء، في مطعم القصر بدمر، ثم تناقش الفقرة التالية،
في المطعم الذي امتلأ حتى عينيه بمحبي محمود درويش، توالت الاقتراحات حول برنامج احتفال دمشق بالشاعر الكبير، اما هو فكان لا يفتأ يتعجل الرحيل عائدا الى بيروت.
على طريق العودة كان الحزن يلفنا في السيارة الصغيرة، وكان محمود يحاول عبثا الاعتذار عما لا يمحوه أي اعتذار، فالجرح خلفنا كان عميقا، وكان الصمت هو أفضل ما يليق بهذه الرحلة البتراء، لولا ان هبّ محمد عبد الوهاب لنجدتنا، عبر المذياع، بأغنيته »كل ده كان ليه« فإذا محمود يرفع الصوت الى مداه ربما ليغطي على أصداء الفضيحة التي كانت تدوي في داخله كما في دمشق التي خرج منها محمود قبل ان يعرفها وقبل ان تكمل عناقها له، وقبل ان يستعيد بردى مياهه التي جعلتها حديقة غناء على تخم الصحراء العربية الشاسعة.
محمود درويش الآن، مرة اخرى، في دمشق، ضيفا رسميا على حكومتها،
الأرض كروية، إذن، وفلسطين ما تزال تملأ فضاء دمشق وبيروت، والعواصم جميعا.
وللأرض اسم واحد هو: فلسطين.
والعودة أجمل من الطريق إليها.

 

حديث الى الظل!

قالت: اعرف انني وصلت متأخرة، لكنه ليس ذنبي إننا لا نملك اقدارنا.
هز رأسه، ولم يجب.
قالت: اعرف انك لغيري، ولست اطلب ان تحبني، ولكنك لا تستطيع ان تمنعني من ان احبك.
توغلت عيناها في عينيه حتى تعذرت الرؤية وأحست به ينتفض ليستعيد بصره ونفسه، وكأنه كان على وشك ان يغرق، ثم رأته يعتدل في مجلسه من غير ان ينطق ببنت شفة.
قالت: يكفيني ان أراك عابراً في الطريق. يكفيني ان اسمعك تتحدث ولو الى غيري. يكفيني ان اشعر انك تحس بوجودي. يكفيني…
توقفت فجأة، والتفتت إليه غارقاً في صمته، يهرب ببصره بعيداً عنها، وأدركت بغريزتها انها تكاد تصل، فاستدركت:
لعلي تجاوزت حدي. اعذرني، يتدفق لساني بكلام غير الذي اعددت، لم يكن قصدي ان احرجك او أستفزك.
هب واقفاً، ثم مشى مبتعداً بغير وداع، وعند الباب فقط رفع يده بتحية مبتسرة، وغاب في الظلام.
ظلت في كرسيها جامدة لبعض الوقت.. ثم استأنفت عزفها المنفرد فقالت بصوت مشمع:
لا يا حبيبي، لا استطيع الليلة، ليكن موعدنا بعد غد، أجل، بعد غد سأكون حرة.
وقامت فأطفأت النور حتى لا يراها ظلها وهي تحاول متابعة صدى خطواته المبتعدة.
قالت لمرآتها المعتمة: كفى ثرثرة، ليس تعجلي بل ضعف نظره! اصمتي وإلا ألحقتك به، ليتملى من جمال طلعته البهية!
وحين هدها التعب وزحفت الى فراشها سمعت المرآة تعيد رواية الحكاية عن هذه التي تجلس كل ليلة تحدث ظلاً لرجل لم يأت الى موعد حددته ولم تبلغ به أحداً!.

 

تهويمات

} افترض انك نسيتِ بعضك عندي.. فكيفما تحركت تطاردني عيناك بأسئلة قديمة تآكلت أجوبتها وعلاها صدأ العمر!
} هل كان يجب ان يسقط المطر؟!
هل كان جبلا ذلك الشبح الذي يلقي ظلاله السوداء على القريب فيخفيه ويشف عن البعيد فيجعله واضحا وأليفا كوجهك؟!
لستُ الجبل، فلماذا يبتعد عني وجهك كلما أحرقتني أنفاسك؟
أنتظر مطرك لكي أرتوي اشتعالا.
} تجيئين فيهرب الوقت،
وأذهب إليكِ فيهرب الطريق،
الا تبتعدين قليلا لكي أستطيع ان آخذك فنملأ الوقت والطريق والمكان جميعا؟
} تأتي بك الغفلة. يأتي بك الصحو.
للغفلة ملامحك، وللصحو نبرة صوتك.
وأنا منهك في ضم المتفرق منك في أنحائي.
} لا يعيد الهواء الكلمات. إنه يمتلئ بها فحسب.
حيثما ارتحلت حلّ الامتلاء.

 

»من أقوال نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
مخطئ ذلك المحب الذي يعتبر ان حبه بالكاد يكفيه، ولذا يهرب به من الآخرين خوفا من ان يسرقوا منه (او من حبيبه) بعضه. كلما اعطيت الناس حبا ردوه لك اضعافا مضاعفة. لا ينضب الحب. ليس الحب بئراً في أرض جدباء، انه محيط المحيطات جميعا وبين روافده البحور والأنهار وذوب الثلج في القطب والأمطار المدارية في الكون كله. يتسع العالم للمحبين ويتسع الحب لكل من رأى في نفسه الإنسان.

Exit mobile version