طلال سلمان

محمود درويش الدمشقي: السياسة شعرا

منتشياً كما يندر أن يكون محمود درويش، رقيقاً كما لم يكن يظهر أبداً، مبهوراً بعاطفته التي طالما أنكرها أو كبتها بتعسف فإذا هي تنبجس فجأة غزيرة وحارة ومعطرة بياسمين دمشق وموشومة بالعشق الحلبي الآسر..
إنه ممتلئ تماماً، محمود درويش الدمشقي، باكتشافه المتأخر. والشوق نهران ينطلقان متعاكسين ويصبّ كل منهما في منبع الآخر، فإذا الكل ثمل بدموعه: لقد طالت الرحلة وتأخر اللقاء الموعود أكثر مما يجوز، والكل يحاول أن يعوّض وأن يستدرك ما فات.
الناس هم الشعر.. وللسوريين بالشعر عموماً وبمحمود درويش خصوصاً علاقة حميمة لا تذبل في انتظار الموعد المرتجى.
من القلب، من الوجدان، من الفكر، من القضية، من الإنسان وأحلامه يجيء الشعر وإليه يذهب.
الشعر الناس: كلمتهم، أمنيتهم، صورتهم الأبهى.
إنه يأخذ يدك إلى مهجع حلمك فيمنحك القدرة على ملامسته ومجالسته ويتقدم بك نحو اكتمال المعنى.
محمود درويش في دمشق أطول قامة: ينفخ فينا الصمود روحاً جديدة، فإذا ما احتضنتها مع الإرادة القلوب، اكتسبت صورة الغد وجه الفتى القادر بعشقه للحياة على قهر الموت وصنَّاع الموت.
والشعر باب الغد ومحرابه.
* * *
يتدفق محمود درويش »السياسي« فيكاد يتجاوز بعقله التحليلي المتميز شعره المتفوّق فيه دائماً على ذاته، يقول:
لا تريد إسرائيل السلام، ولن تعطي السلام للفلسطينيين. إنها تمنح »سلامها« لأفراد وليس لشعب فلسطين. السلام الإسرائيلي لعملاء إسرائيل والمتعاونين معها وحدهم.
لن تنفذ إسرائيل اتفاق أوسلو. إنها تماطل وتجادل في اتفاقات تفصيلية تافهة، وتستمر في بناء المستوطنات وطرد الفلسطينيين، بحيث لن يتبقى ما نفاوض عليه في المرحلة النهائية.
أذكى ما في الموقف السوري الصامد إصرار القيادة على التمسّك بالسلام. إننا بهذا يمكن أن نكسب المزيد من المساحة في الرأي العام العالمي، وحتى داخل إسرائيل.
لا بد من أن نتخابث مع هذا العدو الشرس والمتمكّن والقوي بالدعم العالمي، فلا نكشف أوراقنا، ولا نعطيه الفرصة للتوغل داخل خلافاتنا. حتى حين نختلف على أمر علينا أن نحفظ وحدة موقفنا إزاءه. نمشي بما نتوافق عليه ونرجئ الخلاف حول ما لا يقبله هذا الطرف أو ذاك منا.
لا أتوقع أن يسقط نتنياهو في الانتخابات المقبلة في إسرائيل. المزاج العام في إسرائيل نحو مزيد من التطرف والعدوانية. لعل الإسرائيليين يرون أن الثنائي رابين بيريز قد حققا الحد الأقصى مما كان يمكن أن يحققاه، فأراحوهم من غزة، واستقدموا قيادة المنظمة فأسروها في الداخل، والآن الدور على الاتجاه الأكثر شراسة ليستكمل الاستيلاء على الضفة، وطي الملف كله.
ذهبت القيادات الإسرائيلية التاريخية، التي جاءت إلى فلسطين ممتلئة بالأحلام والتجربة والثقافة. رحل أولئك الأشكناز الأوروبيون الذين كانوا يحفظون الشعر ويعزفون على البيانو ويقدمون للعالم »قضيتهم« عبر إطار فكري عقائدي وحضاري. حكّام اليوم من أردأ النماذج السياسية. خذ نتنياهو، مثلاً… من أين له بالثقافة والتجربة والخبرة؟! لقد تربى في أحياء بروكلين، وهو مجرد »غازٍ« أجنبي يرفض أن يكون من هذه الأرض حتى وهو يستولي عليها.
لقد حدث تحول ديموغرافي لافت في إسرائيل، فالأكثرية الساحقة من الإسرائيليين اليوم هم من الشرقيين وأشباه الشرقيين، الروس، لقد فقدوا ذلك التميّز الذي كانوا يقدمون أنفسهم إلى العالم من خلاله.
حسناً فعل اللبنانيون ومعهم السوريون حين تركوا الإسرائيليين أنفسهم يفضحون خدعة »لبنان أولاً«. هناك تيار قوي يطالب بالانسحاب من لبنان بسبب الأكلاف الثقيلة التي يتكبدها جيش الاحتلال، لكن مجرد المطالبة بضمانة سورية يفضح زيف الكلام الإسرائيلي عن الانسحاب من لبنان.
لقد حمى المصريون برفضهم التطبيع شعب فلسطين من الانسحاق. إن موقف الشعب المصري، المواطن المصري، هو المعبّر الحقيقي عن ضمير الأمة. الاتفاقات تظل أوراقاً ما دام الناس خارجها.
من حظ العرب أن يصل شخص مثل نتنياهو إلى سدة الحكم في إسرائيل. لقد أسقط الأوهام حول خدعة المشاركة والشرق أوسطية التي بشّر بها بيريز والتي كان يمكن أن تخدع بعض العرب، والتي خدعت بعضهم فعلاً.
ليس لياسر عرفات بديل. ليس بعده إلا الكارثة والفوضى والسقوط الذريع.
* * *
يغادر محمود درويش السياسة عائداً الى دمشق وحلب وجمهور الشعر الذي غمره بعاطفته وتقديره وإيمانه الراسخ بالقضية فجدّد فيه الأمل:
كانت أكف الصبايا والشباب مثلجة، وهم يصافحونني. لقد وقفوا في البرد، تحت المطر، أكثر من أربع ساعات، ليسمعوني..
كنت أتأمل وجوه جمهوري، وعزز أملي في الغد أنهم من الشبان الذين كان واحدنا يخشى أن يكونوا قد انصرفوا عن »القضية« وعن »الشعر« إلى مباذل الحياة اليومية.
دمشق بيتي وأهلي. لقد كدت في لحظات عديدة أجهش بالبكاء. لا أملك ما أرد به على حرارة هؤلاء الذين احتشدوا لتحيتي غير أن أعمل أكثر وأن أعتني أكثر بنتاجي.
سأجيء الى بيروت قريباً، وإلى بيروت بذاتها، وإلى اللبنانيين، وليس إلى مناسبة فيها، لذا اعتذرت عن عدم المشاركة في مهرجان تكريم ذكرى الجواهري، مع تقديري لهذا الشاعر الكبير ولمنظمي المهرجان.
* * *
الشعر والقضية ودمشق السيف والياسمين.
ووزير الاعلام السوري الدكتور محمد سلمان يبلغ محمود درويش أن الرئيس حافظ الأسد قد اتصل يستفسر: لماذا كان شاعرنا الكبير متجهماً حين بدأ أمسيته الشعرية الأولى؟! هل ثمة ما أزعجه؟!
ولمحمود درويش عودة قريبة إلى دمشق للقاء مع الرئيس حافظ الأسد، ومع الجمهور الذي لم يستطع الوصول إليه، وهو في كل بيت.
لقد أسمعت دمشق، كما أسمعت حلب، محمود درويش بنبض القلوب فيها بعض أجمل شعره.
وللشعر والشاعر مواعيد مفتوحة الآن في دمشق وبيروت وسائر المدن التي تصحو على قصائد محمود درويش وتحفر الطريق الى غدها بمثل ريشته.

Exit mobile version