طلال سلمان

محمد بصري نشهد انك بلغت

أن تنعى محمد البصري، »فقيه« العمل الوطني المغربي، وفقيه النضال القومي العربي، فكأنك تنعى مرحلة لعلها بكل ما حفلت به من آلام وأحلام وإخفاقات وإشراقات وانتصارات وانتكاسات الأغنى والأبقى أثراً في التاريخ العربي المعاصر.
فلم يجتمع في رجل مثل ما اجتمع في هذا »الفقيه« الذي له وجه طفل وشهامة فارس وشجاعة رسول وإيمان صوفي ورقة شاعر ودماثة الجد الطيب وصلابة السيف في يد موسى بن نصير.
ولم يجتمع في شخص مناضل فرد مثل ما اجتمع في هذا القائد الفذ من الصلابة والدهاء، ومن تجارب »رفاق السلاح« الذين افترقوا فظل الصلة بينهم والرابط بين دروس تراثهم في الجهاد الأكبر والأصغر.
ففي محمد البصري، الضئيل القامة العظيم العقل، شيء من أبطال ثورة الريف المغربي، والكثير من ثورة المغرب التي كان يُراد لها أن تكون موحدة ثم انفكت عراها، وبقي »الفقيه« يعمل ويعمل حتى نجح في أن يجمع في شخصه بعضاً من عبد الكريم الخطابي وبعضاً من الأمير عبد القادر الجزائري، بعضاً من السلطان محمد الخامس الذي أعادته الثورة على الاستعمار الفرنسي ملكاً، وبعضاً من عبد الحميد بن باديس و»أبنائه« الذين أخذوا عنه الجهاد مثل أحمد بن بله ومحمد خيصر وكريم بلقاسم وحسين آية أحمد وبوصوف وبوضياف إلخ…
والأهم أن هذا »الفقيه« الذي حمل السلاح ضد المحتل الأجنبي كما ضد الطاغية »الوطني« ممثلاً بعرش الحسن الثاني، وطاردته الأحكام بالإعدام إلى المنافي، قد حمل أحلامه في قلبه وفي حركته وهكذا فقد مدّ عقله وجهده جسراً بين ثورة جمال عبد الناصر في مصر، والحركة الوطنية في المغرب العربي، ليجمع بحركته الدؤوبة بين ثوار مصر والمناضلين في تونس (حشاد وابن طوبال وأحمد بن صالح) والمجاهدين في الجزائر إلى طلائع حزب الاستقلال الذين انفصلوا عنه ليؤسسوا الاتحاد المغربي للقوى الشعبية (الاتحاد الاشتراكي الآن) وفيهم المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم…
وعبر مصر وجمال عبد الناصر فيها فقد انطلق البصري مع المد الثوري إلى المشرق العربي ليؤسس لعلاقة نضالية مع حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب، ومع قيادة حركة المقاومة الفلسطينية، ومع قيادة العمل الوطني في لبنان وكمال جنبلاط على رأسها.
كذلك فإنه عبر مصر وثورتها ومن بعد الجزائر وثورتها، وبالاتكاء على الصلات العضوية للحركة الوطنية (في المغرب) بثوار أفريقيا، فقد لعب محمد البصري دوراً طيباً في الربط بين النضال العربي ونضال الشعوب الأفريقية الطامحة للتحرر من إسار المستعمِر الغربي.
لهذا كان ثمة »محمد البصري« في كل عاصمة عربية تقريباً: تغادره في القاهرة فتلقاه في الجزائر، وتودعه في دمشق فيستقبلك في بغداد، وتواعده في بيروت فيدعوك إلى طرابلس الغرب في ليبيا، وتفارقه في باريس فإذا به يطل عليك من جنيف…
وحين تمّ تأسيس المؤتمر القومي العربي، بجهد بعض المناضلين من رافضي اليأس وبالتالي التقاعد، أمثال خير الدين حسيب وأحمد صدقي الدجاني ومحمد فائق وعبد الحميد المهري، وجد »الفقيه« الذي كان ما زال في المنفى »بيته« الذي يعوّضه »شميم« وطنه وأمته، ولو إلى حين.
وليس من المبالغة في شيء أن يقال إن محمد البصري الذي
كان يغذ السير نحو الثمانين من عمره، كان في حركته وفي اتصالاته وفي تفاؤله وفي تحريضه الدائم على التغيير وفي العمل لهذا التغيير، يبدو أكثر فتوة من الشباب دون الثلاثين.
لعل إيمانه بشعبه وبأمته كان أقوى من جميع المحن التي أحاقت بهذا الوطن الكبير، بمجموعه كما بكل قطر من أقطاره على حدة.
وبالتأكيد فإن ثقافته بتاريخ بلاده قد وسعت أفقه وعززت فيه إيمانه، خصوصاً أنه كان مشبعاً بالتراث الفكري والنضالي لمجموعة الأعلام الذين سعوا للربط بين المشرق والمغرب، ولتوضيح حدود الوصل والقطع بين العروبة والإسلام، بدءاً من أعلام التنوير من الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم إلى الأمير شكيب ارسلان والشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ البشير الإبراهيمي… وصولاً إلى محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ثم جيل الشباب القومي في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق وصولاً إلى اليمن…
هل يأخذنا الأسى الى الافتراض أن مرحلة ذهبية من مراحل النضال الوطني والقومي قد طوت برحيل محمد البصري أعلامها؟
وهل يدفعنا الحزن الى الاعتقاد بأن العروبة في المغرب قد خسرت بعض وهجها المنوِّر؟!
إن قلنا ذلك لأسأنا إساءة بالغة إلى هذا المجاهد الذي قضى نحو نصف عمره يناضل في المنافي ضد الطغيان العربي حيثما وجد، ويقاتل من أجل حق المواطن العربي في التحرر من الاحتلال الأجنبي كما من المتحكم الداخلي، وكذلك حقه في المعرفة وفي القول وفي العمل وفي اللقمة الحلال.
لقد أعطى محمد البصري الأمة عمره حتى الثمالة، وهو يستطيع الآن أن يرقد مرتاحاً في مثواه الأخير ولسان حاله يقول: قد بلّغت… اللهم فاشهد!
وداعاً يا ملخص »الوطن العربي« وأحد رموز الأمة الواحدة.

توفي أمس المناضل المغربي محمد البصري في مدينة شفشاون المغربية عن عمر يناهز 76 عاماً، أمضاها في خدمة تحرر بلاده والدفاع عن قضايا الوطن العربي.
وكان البصري أخضع لعملية جراحية في القلب في أحد مستشفيات باريس في آب الماضي.
وفقدت الأمة العربية بوفاته معلماً بارزاً من وجوهها إلى جانب رفيق دربه المهدي بن بركة. وأمضى البصري غالبية سنوات حياته مدافعاً صلباً عن قضاياها ووحدتها ومقاوماً للاستعمار الفرنسي والإسباني، ونزيلاً في المعتقلات ومجبراً على العيش في المنافي السياسية قبل عودته في منتصف التسعينيات.
ومن المقرر اليوم تشييع البصري في مدينة الدار البيضاء حيث سيوارى الثرى في مدافن الشهداء. وقد وجه الملك المغربي محمد السادس برقية تعزية إلى عائلة البصري وصفه فيها ب»المقاوم«، وقال: نتقدم إليكم بأحر التعازي وصادق مشاعر المواساة، في هذا المصاب الجلل، لفقدان عائلتكم والوطن لأحد قادة المقاومة المجاهدين من أجل استقلال المغرب وتحريره ووحدته وعزته«.
(شهادات في الراحل وسيرته ص17).
وغداً في »السفير«
شهادة محمد جمال باروت في الراحل:
وما بدّلوا تبديلاً

Exit mobile version