طلال سلمان

محمد الخولي والحملة الأميركية

منذ فترة طويلة غاب عن الصحافة العربية في مصر اسم صاحب قلم مشرق هو الزميل محمد الخولي.
كان محمد قد استشعر شيئاً من اليأس من جدوى الكتابة، خصوصاً ان امواج الانحراف كانت قد علت ايام انور السادات فغطت على الحقائق وكادت تطمس اليقين.. فاختار ان ينزوي حتى لا يجرف الانحراف قلمه او يعيش مقهوراً بالصمت الاجباري.
مر بنا في بيروت وهو في طريقه إلى الولايات المتحدة الاميركية ليعمل في مؤسسة دولية.
سألناه عن المهنة التي يعشق والتي كان قد اعطاها الكثير مع وعد تشع به كتابته بأن يعطيها اكثر، فاكتفى بأن قال: لن اسقط في جب الخرس، وسأحاول.
قبل شهور هتف لي الصديق والزميل مصطفى نبيل الذي يخوض منذ سنوات تجربة مميزة في رئاسة تحرير مجلة »الهلال«:
لقد انجز محمد الخولي، ستفرح بكتاب »الحملة الاميركية« الذي أصدرناه في »كتاب الهلال«.
لم يكن مصطفى نبيل مبالغاً أو محابياً لصديقنا المشترك. فالكتاب مهم جداً للعرب، ليس لأنه عنهم بشكل ما، بل لأنه يقدم »بانوراما« ممتازة لأسلوب التعاطي الاميركي مع العرب عموماً »منذ ان نزل أول اميركي إلى أرض الاسكندرية في تموز (يوليو) من عام 1788، وكان اسمه جون ليدرياد، وهو كان مغامراً رائداً وجريئاً بقدر ما كان مأذوناً وإلا لما تجاسر على ان يصف نهر النيل ببساطة بأنه »لا يزيد في سمعته على نهر كونيكتبكت« وهو نهر متواضع يشق واحدة من أصغر الولايات الأميركية«.
الكتاب الذي وضعه روبرت كابلان واعطاه اسم »الآرابيست« يؤرخ فعلاً لما رآه مترجمه محمد الخولي »الحملة الاميركية« على الشرق، والتي تبدو الآن وكأنها تجاوزت في تحقيق أهدافها ما كانت حققته الحملات الغربية السابقة (الانكليزية، الفرنسية، البرتغالية، الهولندية، الايطالية والالمانية الخ)…
والحملة التي بدأت على يد بضعة أنفار من المبشرين البروتستانت متخذة من التعليم والمساعدات الصحية والاجتماعية باباً شرعياً للدخول إلى هذا الشرق الممزق والمقهور بالتخلف، أخذت تتقدم مكتسحة الموقع تلو الآخر، مع التراجعات السياسية للحليف الغربي بداية، ثم مع الانتكاس الذي اصاب حركة النهوض القومي بعد هزيمة حزيران 1967.
والكتاب يؤرخ للتحولات التي طرأت على مهمة المبشرين، كامتداد طبيعي للتحول الذي طرأ على سياسة واشنطن العالمية، واستطراداً سياستها المشرقية على وجه الخصوص.
فالحملة التي بدأت بالمبشرين في اوائل القرن الماضي قد انتهت بنزول القوات الاميركية مباشرة على الأرض العربية و»احتلالها« »لتحريرها« مع بداية التسعينيات من القرن العشرين.. وعبر سياقها الطويل برز مستعربون في مجالات عدة، جامعية ودراسية ثم دبلوماسية، حتى ليمكن إحصاء مجموعة من السفراء الاميركيين الذين قاربوا فهم النفسية العربية قبل أن تطاردهم فتطردهم المدرسة الاخرى، الاقرب إلى اسرائيل والاسرائيليين داخل وزارة الخارجية.
ولقد اجتهد الكاتب لتقديم سيرة ذاتية لتطور العلاقات الاميركية مع العرب، فاستخدم فنوناً عدة في الكتابة بينها أسلوب العرض التاريخي، وأسلوب المقابلة مع جميع من يزالون على قيد الحياة ممن يعنيهم موضوعه او يشكلون موضوعه، كما افاد من السجل الشفوي في مركز التاريخ الدبلوماسي بالخارجية الاميركية، فجاء الكتاب تقاطعاً بين محوري الزمان والمكان.
من هنا كان جهد التعريب اعظم تحدٍّ، خصوصاً وقد اضطر المعرب إلى التصحيح احياناً او التعليق بالتوضيح احياناً اخرى، ليقدم »محصلة صورتنا عند الآخر«.
وطبيعي ان الكتاب افرد بعض فصوله للجامعة الاميركية في بيروت ولمؤسسيها آل بلس (دانييل بلس) وآل دودج، كيف بدأت وكيف تطورت، وكيف استدرجت الفرنسيين إلى تطوير »مدرسة ريفية كان يديرها اليسوعيون« إلى جامعة (جامعة القديس يوسف اليسوعية).. تمهيداً لأن تصبح المؤسستان »رمزين للبنان ذي القطبين المتعارضين«.
»فالجامعة اليسوعية رمز للقلب الثقافي والايديولوجي للبنان الذي يرى نفسه فرنسيا ومارونياً ومؤيداً لإسرائيل والغرب، لبنان الذي يرى في نفسه سليل فينيقيا القديمة وينظر من علٍ الى حد بالغ إلى الجماهير العربية المسلمة، ثم من ناحية اخرى الجامعة الاميركية في بيروت التي اصبحت قلب اليقظة القومية العربية النابض التي ترى لبنان جزءاً لا يتجزأ من بلاد الشام ومن العالم العربي الأكبر، جاءت دولة اسرائيل لتصبح بمثابة تذكرة مستفزة له بحقبة الاستعمار البريطاني، تماماً كما ان لبنان الماروني السيطرة سيصبح رمزاً للاستعمار الفرنسي«.
يقدم الكتاب مجموعة من الشخصيات الاميركية التي مارست داخل البلاد العربية او داخل الادارة الاميركية أدواراً مشهودة واصلت »الاستعراب«، ومن بين اولئك مجموعة كبرى من السفراء الاميركيين الذين عملوا في المنطقة، منهم على سبيل المثال: لوي هندرسون، هيرمان ايلتس، ريمون هبر، بيل ستولفوز، ريتشارد باركر، هيوم هورن، نيكولاس فليوتس، الفرد ليروي اثرتون، ويليام هودجسون، ريتشارد اندلاند، ارثر كلوز، تاكلوت ويليامز سيل، ويليامز فردريك ويليامز، ابريل غلاسبي، ريتشارد مورفي، ديفيد لونج، اندرو كيلجور، هارولد سوندوز، باركز هارت، لوشيوس باتل، مايكل ستيرز، وحكيم المستعربين روجر ديفيز.
الكتاب لا يلخص، لأنه بحد ذاته تلخيص لتاريخ الحملة الأميركية على المنطقة التي انتهت بظفر يفوق الخيال.
مع ذلك تستوقفك عبارة منقولة عن مذكرات الرئيس الاميركي الاسبق هاري ترومان، الذي كان في منصبه عند اقامة دولة اسرائيل، وقد جاء فيها:
»ان خبراء وزارة الخارجية المختصين بالشرق الادنى كانوا بغير استثناء لا يكنون الود لفكرة دولة يهودية«.
ان المسافة هائلة، بحيث بات مفهوماً ان يصمت قلم الخولي عن الكتابة، وأن يحاول تنويرنا بما يكتبه الآخر عنا، لعلنا نتعلم، لعلنا نعرف، لعلنا نعمل.
وشكراً لمحمد الخولي ومصطفى نبيل، على هذا الجهد.

 

السعي إلى المبهم

هل وصلت متأخرة، أم أن لديك بقية من وقت؟
يجيء حين يجيء، لا الساعة تحدد له المواعيد، ولا المواعيد تحرفه عن غايته…
أنا آتية من البعيد. تعبت من السعي إلى المبهم الذي لا ينجلي. كلما قدرت أنني دانيته غذ السير فجرجرني إلى حيث أشتهي وأخاف.
اما أنا فقد تعبت من ركاكة الوضوح، وأخسر نفسي في العادية…
اين اذاً نلتقي؟!
في قلب الخوف.
أموت خوفاً.

 

المدى فسيح كعينيك

يتجاوز القدر الحضور والغياب.
لا المسافات تذهب بالحب، ولا اختلاف الأزمنة سبب للافتراق.
تغادر الصورة متعجلة، لكن الأصل يرسخ اكثر في النبض، يسري في الشرايين منابع للحكمة، للايمان بالإنسان، فيضخ الأمل في دنيانا.
نحس بثقل المهمة. لقد أُضيف إلى جهدنا جهدنا، وأُضيفت إلى آمالنا أحلام الأحبة التي زرعوها فينا، نباتا مقدسا ينمو في صدورنا كل يوم، ويقرّب أيدينا من النجوم.
تقلع الطائرة من دون المسافرين، وتبقى الغرف يزيد البعد الوجع، لكن القرب لا يخفف منه.
والحب هو الحب، والذكرى الندية قد تفضل الوجود المعذب.
يجيء الرحيل في موعده تماما. يخترق الحب والكراهية، الحقد والإشفاق، الحزن وبهجة أيام الصفاء، لكن صورة من تحب تزداد نبلاً وطيبة وحناناً.
لا يركب الحنان الطائرة، ولا هي تستطيع أن تسابقه، او أن تبلغ مداه الفسيح كعينيك.
محجوزة للفراغ.

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لا تُعرف له مهنة غير الحب:
ليس للحب ماضٍ. ليس للحب حاضر. الحب هو زمان الزمان. قبله، أو بعده، يصبح الزمان مروراً عابراً لأيام شاحبة لا تستوقفك كثيراً لأنك لست فيها.
الحب هو زمان الزمان.
هل دخلت زمانك أم أنك ما زلت تدور مهوماً تعيش على هامش ازمنة الآخرين؟
بعضنا يفضل أن يكون راوية على أن يكون بطلاً.
بعضنا يهجر زمانه متوهماً انه بذلك يدخل التاريخ.
في التاريخ يموت الفرد برداً، حتى لو كان على »قمة« المجموع.
في الحياة دفء العمر، والحياة تحب »المثنى«.
زمانك في ثانيك. ابحث عن زمانك وعش فيه.

 

قراءة في عيون السر 3

تدور الحدقتان المسكونتان بالمبهم في محجريهما، وتنهمر الاسئلة فتملأ بضجيجها فراغ نهاراتنا الشاحبة.
تلتمع ابتسامة ساخرة في الحدقة المحيرة ألوانها، فنلتفت إلى انفسنا نحاول اكتشاف العيب، ونحاول القراءة في بحر الغموض الكامد، ولكنك تقررين فجأة اعتماد الجدية معنا فنراك تهمهمين بلغتك المفردة ما نفترض انه تأنيب او لوم على قصورنا في تعلم الابجدية.
تقولين الكثير. وحين تيأسين من فهمنا، تصدرين تلك الأصوات المداعبة التي تستدرجنا إلى براءتنا المضيعة.
حدقتك مثل زهرة القمر: تختزن البهاء والضياء ولا تعطينا إلا وجهاً واحداً من وجوهها العديدة. لا تكشف لنا جذورها، ولا تمتد إلى حيث تطالها اليد.
زهرة القمر.
ها أنت تعيديننا بشراً.
ها نحن نعود من ليل العذاب إلى نهاره الطويل.
ها نحن نغص ببهجتنا لأننا نخاف عليك منا.
لو أنك تبوحين لنا ببعض السر، حتى لا يذهب بنا الخوف منكِ أو الخوف عليك.
وتدور الحدقتان بنا في قلب تلك البسمة الوادعة فيكاد يتهاوى التوازن الهش الذي دفعنا من اعمارنا ثمنه خوفاً من الصعود بعيداً، بينما نتذرع دائماً بخوفنا من السقوط.
ونحن في معارج السقوط، كما لا بد تعرفين.

Exit mobile version