طلال سلمان

محطة أخيرة عن «السيد كاظم» وأرضه..

حين التقينا، أول مرة، وقف عند الشرفة ومد عصاه أمامه أداة إشارة: إنهم هنا، فوقنا مباشرة، في جبل سجد. افترض أنهم يروننا الآن بمناظيرهم المكبّرة. معهم مدافعهم ودباباتهم، وطائراتهم لا تغادر سماءنا. إنهم يرصدون كل حركة، ويراقبون البيوت والطرقات، السيارات والدواب التي ينقل عليها الفلاحون ما تبقى من غلالهم وثمار الأرض التي سقوها بعرق الجباه على امتداد الأجيال..
التفت إليّ «السيد كاظم» وابتسمت عيناه قبل أن يضيف: لكننا هنا باقون. نحن أهل الأرض. نحن أبناء شمسها وترابها. لقد عشنا منها وبها ولها. إنهم عابرون. لن يستطيعوا البقاء طويلاً…
اتسعت ابتسامته حتى غطت وجهه كله ونظرني في عيني وهو يقول: لكنهم إلى زوال! لن يستطيعوا أن يبقوا طويلاً. إننا نعرفهم جيداً، وهم يعرفوننا جيداً. لن نرحل. لن نترك لهم أرضنا. هم فوق، ونحن ـ جغرافياً ـ تحت. وهم يستطيعون أن ينسفوا جبل سجد هذا الذي يقف شامخاً أمامنا. لكننا هنا باقون.
صمت قليلاً والتفت ليتأكد من أن أفراد أسرته في شاغل عنا ثم أضاف بلهجة حازمة: يريدني أبنائي أن أترك عربصاليم. يقولون إن الإسرائيليين قتلة وغدارون.. كأنني لا أعرف! أنا أعرفهم أكثر مما يعرفونهم. ولأنني أعرفهم جيداً وأعرف أهل هذه الأرض التي أنا منها، أرفض أن أغادر بيتي وأرضي. لا أدعي البطولة ولست أشجع من غيري. أنا واحد من أهل هذه الأرض التي سكنتني وسكنتها، حفظتني وحفظتها. أطعمتني وأكرمتني بهويتي… أليس من العار أن أتركها؟! ولمن؟ لهؤلاء القتلة والسفاحين؟!
التفت مرة أخرى ليتأكد من أن «ساطع» بعيد، ثم أردف قائلاً: يخاف عليّ ساطع… يقول إن الخلل في سمعي هو السبب، لكنه الخوف. لو أنه يعرف الأرض مثلي لاطمأن إلى أنها مصدر الحماية.
… مضت سنوات قبل أن تتيسر لي فرصة ثانية للقاء «السيد كاظم»، وحين بلغت منزله في آخر عربصاليم استقبلني مهللاً: أما قلت لك إنهم سيرحلون؟! خي! الهواء نظيف الآن، املأ رئتيك! ها هي الجبال والتلال مطهرة بالدم! من تومات نيحا إلى جبل الريحان إلى جبل صافي إلى جبل سجد هذا إلى الشقيف وصولاً مع الهضبات والتلال حتى فلسطين، كلها مطهرة! لقد حررها إيمان المجاهدين. هذه أرضنا ونحن أهلها. تكون بنا وبها نكون.
كانت الفرحة تزغرد في شوارع الضيعة وساحتها. وكانت اللوحات الحاملة صور المجاهدين تقدم دليلاً إلى الأرض المحررة بجبالها وتلالها ومدنها وبلداتها وقراها. وكانت صدور الأهالي عامرة بالفخر، ولا زهو. لقد عاد التاريخ إلى سياقه الطبيعي، ها هي الأرض وها هم أهلها الذين افتدوها لتظل لهم، وطردوا منها الاحتلال بجبروته وطغيانه…
قال «السيد كاظم» والفرح يطل من عينيه: صاحبك «ساطع» اطمأن الآن.. إنه يبني بيته هنا، تعال أدلك على ما أنجز منه.
… في ما بعد ذهبنا إلى عربصاليم لنبارك لساطع بيته الأنيق. لم يقدّر لنا أن نلتقي «السيد كاظم»، مع أن المكان كان عابقاً بأنفاسه.
أما في الزيارة الأخيرة فقد ذهبنا لوداع «السيد كاظم» الذي فتحت الأرض قلبها لتحتوي جثمانه الطاهر في أرضه المطهرة من الاحتلال.
وكانت أرواح الشهداء الذين حفظوا الأرض لأهلها ترف فوقنا، وكان الهواء نظيفاً، والجبال نظيفة، والنفس المطمئنة تعود إلى ربها راضية مرضية.
[ (محاولة لمشاركة ساطع نور الدين عبر زاويته الأثيرة)

Exit mobile version