طلال سلمان

محاكمة حرب جميعا

للوهلة الأولى تأخذك الدهشة إلى إنكار المكان: هل تجري هذه المحاكمة النموذجية في لبنان الممزّق والنازف بعد والمعطّل القلب والحياة السياسية؟!
لكن النظرة الثانية تقودك الى الاطمئنان الى أن لبنان بخير طالما أن قضاءه ما زال قادرù على أداء مثل هذه »العملية الفدائية«، وفي ظل الظروف النفسية والسياسية والاجتماعية المتردية التي تثقل على وجدان اللبنانيين وعلى بصيرتهم قبل بصرهم.
للوهلة الأولى يبدو وكأن الطائفة المارونية تحاكم نفسها بنفسها،
لكن النظرة الثانية تقودك إلى الاعجاب بهذا المناخ الذي يضبط هذه المحاكمة التاريخية ضمن الأصول، مرتفعù بها فوق الحساسيات الطائفية، متجنبù ألغام السياسة والسياسيين،
ففي محاكمة سمير جعجع بتهمة المسؤولية عن اغتيال المرحوم داني شمعون وعائلته يختلط كل شيء بكل شيء: السياسة بالجريمة، والأحقاد بالمطامح الشخصية، والعصبية الطائفية بالمصالح التي تفرض المصالحات، والمراهنات الانتحارية بالحسابات الدقيقة في »حرب« الوصول إلى سدة السلطة.
للوهلة الأولى يأخذك سوء الظن وقلة الثقة بموضوعية السلطة السياسية ونزاهتها الى التشكيك بكل ما يجري، وإلى التحفظ في رفض ما يشيَّع ومنذ اللحظة الأولى ان كل هذا الذي يتم ليس أكثر من فصول في مسرحية هزلية إلى حد الابكاء، أو دراما مكتوبة برداءة تفجّر فيك الرغبة بالضحك طوال الوقت.
لكن النظرة الثانية تلزمك بأن تأخذ الأمر بمزيد من الجدية: فما يجري هو محاكمة فعلية لواحد من أطوار الحرب الأهلية/الدولية في لبنان، وهو قد يكون مقدمة لمحاكمة أعظم شمولاً لأطوار تلك الحرب الدهر جميعù، ولأبطالها أجمعين، من قضى منهم ومَن ينتظر، من أغرقه الدم ومن أوصله الدم الى السلطة، من هاجر ومن هجَّر ومن تم تهجيره، وكذلك من كانت الحرب في لبنان وسيلته وشهادة حسن السلوك التي أبرزها لكي يصير رئيس سلطة الشرطة في غزة.
للوهلة الأولى تميل الى اعتبار وقوف »الوزير« شاهدù مجرد »مشهد سينمائي« في شريط معروف النهاية السعيدة،
خصوصù متى انتبهت الى الشاهد الثاني، وهو الشاهد المحترف بامتياز، اذ شهد معظم الوقائع المذهلة لتلك الحرب في أطوارها المختلفة وبقي »مسالمù« بين المقاتلين، وأرمنيù بين الموارنة، و»مسلمù« بين المسيحيين، و»عربيù« بين »رفاقه« الاسرائيليين ولبنانيù بين العرب العاربة والمستعربة،
واما الشاهد الثالث فأقرب لأن يكون خصمù للمدعي والمدعى عليه وللشاهدين الآخرين،
لكن النظرة الثانية الى هؤلاء الشهود الثلاثة، والى شهاداتهم، تأخذك الى اليقين بأن الزور والتزوير وتحريف التاريخ كل ذلك قد يحدث لكنه يظل اضعف من ان يرسخ ويبقى في الارض، وبأن قدرù قليلا من الشجاعة في المواجهة يكفي لإظهار الحقيقة، حتى لو تعذر العمل بمقتضاها.
* * *
انها ليست محاكمة لفرد واحد او لمجموعة افراد، عن واحدة من جرائم الحرب او عن مجموعة من جرائمها التي تكاد لا تحصى،
وهي بالتأكيد ليست محاكمة مارونية تجري داخل الطائفة ولا تعني احدù خارجها، من خلال الاستدلال بأن قاضيها ماروني، وكذا الضحية من ثم المتهمون بإصدار الامر بالاغتيال ثم بتنفيذه، وصولا الى الشهود… والجمهور المتنوع والذي يضم الى الحزانى والمفجوعين اولئك القلقين على حصصهم من »التركة« والشامتين والآتين بدافع اشباع رغبتهم في الانتقام الذي لم يقدروا عليه بأيديهم، وانتهاء بالفضوليين والمتشفين الذين كلما سقط امامهم احد الذين صاروا »كبارù« عليهم، نادوا: هل من مزيد؟!!
انها محاكمة للجميع، جميع اللبنانيين بداية، ولأي طائفة انتموا،
ثم انها محاكمة لكل الاطراف التي كان لها »يد بيضاء« في الحرب اللبنانية العربية العالمية التي كانت النذير بعصر »السلام الاسرائيلي«، وهي اطراف تضم العرب والاسرائيليين والاميركيين والغرب والشرق وصولا الى فيدجي في اعماق »بحر الظلمات«.
وهي محاكمة سيكون للحكم فيها، كائنù ما كان، محاكمة ثانية اقسى بأحكامها من هذه التي تجري الآن امام المجلس العدلي في قصر العدل،
ذلك ان القاضي الاصيل خارج القاعة، وخارج القصر، بل هو في داخلهما كما في الخارج من خلال وجوده حيثما يوجد لبناني واحد مهتم بيومه وبغده.
والقاضي الاصيل هو »الرأي العام« الذي يضم الضحايا الاحياء الى جانب ذكريات الضحايا الذين سقطوا في اتون هذه الحرب التي شوّهت من اللبنانيين (والعرب) اعدادù تفوق كثيرù اولئك الذين التهمتهم عبر دهرها الذي لما ينته.
وفي انتظار ان ينجز المجلس العدلي، بهيئته الرصينة التي تتصرف بالدقة المطلوبة لمحاكمة تاريخية بهذه الخطورة، يمكن الاطمئنان الى ان لبنان بخير، حتى ولو كان الحكم فيه معتلا بمرض الترويكا والانجاز مضروبù بأوهام خطة النهوض الاقتصادي في بلد مفلس.
لبنان بخير، لأن قضاءه ما زال محصنù بسلامة الوجدان. وهذا كثير كثير لو تعلمون!

Exit mobile version