طلال سلمان

محاضرة رحلـة داخـل همـوم المستقبـل العربـي

.. وتبقى دمشق المقصد والقلعة الأخيرة التي لما تُنكسْ رايات العروبة فيها، وان كان أصابها شيء من الوهن، فلم تعد خفاقة بوعود التغيير نحو الأفضل، والأمل في قوة لا تبنيها غير الوحدة التي عادت لتستقر في مهجع الأحلام.
ولأنها دمشق، فإن الصراحة واجبة ولو مؤلمة، فهو مستقبلنا الذي يتهدده الضياع، وهي دماؤنا التي تهدر غزيرة في صحراء التيه، بعيداً عن آمالنا التي كانت في مدى الذراع، والتي تتبدى الآن خليطاً من الذكريات المعتقة أو السراب الذي لا يطال.
لا مفاجأة في القول إن ليس في الأحوال العربية القائمة ما يطمئن، وليس في احتمال تطورات الأحداث ما يسمح بالتفاؤل، ومن الواجب أن نستعد للأسوأ. لقد فقدنا البوصلة وأضعنا الطريق، ومن المرجح ان يستمر ضياعنا عن هويتنا ومن ثم عن أهدافنا سنوات طويلة، خصوصاً ان العروبة صارت في بعض الأقطار تهمة وفي أقطار أخرى مجرد ذكريات او هي ربما أضغاث أحلام.
هي الردة بحروب عديدة، في الداخل وعلى الداخل، بالخارج ومن الخارج،
لقد امحت العلامات على خريطة الموزاييك التي كنا نفترضها لوطن واحد فإذا هو مجموعة من الكيانات يعاني كل منها من نقص في التكوين، يجعله مهدداً بضغط الخارج او باعتلال الداخل.. والضحية الأولى دائماً هي العروبة، عقيدة تفتقد ركائزها المادية، وهوية يخاف أهلها من أعبائها الثقيلة، سواء في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي او في مواجهة الهيمنة الاميركية او خاصة في مواجهة طغيان سلطات التخلف في الداخل.
[[[
من باب الطرافة التي قد تخفف من أشجان الحديث عن الواقع العربي وان كانت تؤكد فينا بعض الغربة عنه، استذكر هنا بعض الوقائع العتيقة:
في العشرين من أيلول 1962 تسنى لي ان اشهد الجلسة الافتتاحية للجمعية الوطنية التأسيسية لجمهورية الجزائر الديموقراطية التي انبثقت عن أول انتخابات بعد انتصار الثورة.
كنا أربعة مشارقة مبهورين بعودة الجزائر الى أهلها مفترضين أننا واحد، هوية ومطامح ومشاعر ومصالح. وبعد صدمة الغربة لجهل الجزائريين اللغة العربية كان علينا ان ننتبه الى أنهم لا يعرفون إلا الجزائر ومحيطها الأقرب تونس والمغرب، وعبد الناصر باعتباره مصر، وكل العرب، ثم بعض أقطار أفريقيا القريبة. وبرغم الصدمة ظلت عواطفنا الملتهبة تغطي على عيوننا فتمنعنا من أن نرى الحقيقة: هذا الشعب العظيم دفع مليون شهيد ليؤكد جزائريته، اما عروبة بلاده فتحتاج حروباً أخرى في الثقافة وفي الاجتماع والاقتصاد وفي المصالح. هو يأتي من البعيد البعيد وسيحتاج زمناً ليصل الينا، وعلينا الا نستعجله لأنه لا يعرفنا ولا يعرف ما يكفي عن تاريخه وحتى جغرافيته. وبداية فانه لا يعرف لغته، أما إسلامه فممتزج مع وطنيته الى حد تماهيهما معاً.
في مطعم تلمسان تلاقينا لنتذوق الطعام الجزائري، ولقد ظهرت السعادة واضحة على مدير المطعم وهو يرحّب بنا متسائلاً من أين نحن. قال أكبرنا وهو الراحل صديق شنشل: من العراق. فهز العجوز رأسه صامتا. وقال زميلي: من لبنان، بيروت.. فزادت حيرة الرجل، ولما قلت: من بر الشام! صفق صاحبنا بفرح: مرحبا، شام الله في ملكه، الله يحفظ السلطان!
في المقهى الذي كنا نتلاقى فيه، نحن المشارقة الأربعة، تعرفنا الى شاب جزائري دخل العمل في السفارة المصرية التي كانت قد فتحت أبوابها للتو. كان ودوداً وقد أسعده التعرف الينا، فأبلغنا انه يعرف العرب من خلال صوت العرب، وانه يتذوق الغناء العربي ومعجب بفريد الأطرش.
ذات لقاء التفت إليّ الجزائري الشاب واسمه حسن، فسألني: كم يستغرق الوصول الى بيروت بالسيارة، من الوقت؟
وأخبرته بلطف انه لا يستطيع الوصول الى لبنان عن طريق البر، بسب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الذي يقطع التواصل ويعزل المشرق عن المغرب بدءاً بمصر.. ولقد رد الشاب الجزائري المتحمس: أسألك عما بعد تحرير فلسطين! فلقد فتحت دولتنا (التي ولدت بالأمس) أبواب التطوع، فذهبت وسجلت اسمي كمتطوع!
أغلب الظن ان أولاد حسن الجزائري كانوا ضمن المليون الذين استقبلوا مستعمرهم الفرنسي القديم بشخص الرئيس السابق جاك شيراك، بالهتاف المهين: فيزا، فيزا!
[[[
هل من الضروري أن نعمق الجرح فنقول ان دول الشمال الأفريقي العربية تعود الى بيت الطاعة الغربي، بقيادة أميركا الآن، راضية مرضية، وقد أعادت هويتها العربية الى المتحف… فالجوع كافر، والعروبة لا تطعم خبزاً.
أما المغرب فله عين على أوروبا وأخرى على أميركا عبر الأطلسي وتكاد علاقاته العربية ان تكون بروتوكولية. حتى حركته الشعبية التي مدت في الخمسينيات والستينيات جسوراً الى المشرق عبر مصر عبد الناصر والأحزاب القومية في سوريا والعراق ولبنان، ورفعت فلسطين راية للتحرر، تهاوت عبر النكسات والهزائم حتى لتكاد تندثر. لم نعرف وريثاً سياسياً لعلال الفاسي ولا لقياديي الاتحاد الاشتراكي او الاتحاد المغربي للشغل: المهدي بن بركه، عبدالله إبراهيم، الصديق المحجوب.
وأما تونس فقد أبعدت نفسها دائماً عن مشاكل المشارقة. مرة واحدة جاء الحبيب بورقيبة يعرض مشروعاً اعتبر مدخلاً الى الخيانة، فهوجم بالبيض والبندورة، فعاد الى بلاده الخضراء وأغلقها، ولم يقبل بعدها عربياً إلا كلاجئ: جامعة الدول العربية بعدما أخرجتها من القاهرة زيارة العار التي ارتكبها الرئيس المصري الراحل أنور السادات الى الكيان الصهيوني في خريف 1977، ثم المقاومة الفلسطينية بعدما أخرجها الاجتياح الإسرائيلي من لبنان في صيف العام 1982.
وأما ليبيا فحكايتها اغرب من الخيال: من ثورة كانت «القدس» كلمة السر فيها، الى عدد غير متناه من مشاريع الوحدة والاتحاد، مع مصر وسوريا والسودان، مع تونس ومع الجزائر، فإلى الاتحاد المغاربي… فإلى الاتحاد الأفريقي الذي جعل من الثائر القومي الفتى معمر القذافي ملك ملوك افريقيا. ومن «طزطز في اميركا» الى السعي الحثيث الى مصالحتها بأي ثمن، حتى تم المراد باستقبال كونداليزا رايس في مبنى مجلس قيادة الثورة المهدم بالقصف الاميركي عام 1981… وأمامه الخيمة الدالة على الأصالة ولبس عباءة وتقر عيني.
وبالتأكيد فإن التشوّه الذي أصاب معمر القذافي جعله يرى في نفسه نبياً، يعود في نسبة كبيرة من أسبابه إلى هشاشة الفكرة العربية وعجزها عن التحوّل إلى مشروع سياسي مؤهل وقادر على بناء الدول، فضلاً عن انعدام ثقافته واكتفائه بالشعارات الإذاعية والعناوين المضخمة بالأحمر في صحف فترة النهوض، والتي كان ينقصها المضمون.
هل نكمل الصورة بالسودان؟
بعد ثورة مايو 1969 التي قادها الجيش (جعفر نميري) بالتحالف مع الحزب الشيوعي والاتحاد العام لنقابات العمال في السودان، وكان له زخم شعبي محترم، أقيم على عجل ـ وكتقليد أعمى لما هو قائم في مصر ـ تنظيم مماثل للاتحاد الاشتراكي، وتقرر ان يعد دستور جديد لجمهورية السودان الديموقراطية.
ولقد قدر لي ان اشهد جلسة للجمعية التأسيسية للتنظيم المستحدث على عجل مخصصة لمناقشة مشروع الدستور الجديد.
اعترف أنني صدمت حين دخلت الى القاعة الكبرى التي بناها الصينيون والتي تتسع لمئات المندوبين: كانت نسبة أصحاب الوجوه السمراء بل الزنوج، أكثر مما أتوقع بكثير، وان كانت تمثل فعلاً جزءاً أساسياً من شعب السودان.
بدأ الخلاف مع الكلمة الأولى لمن افتتح الجلسة: وقف من يطالب باعتماد الإنكليزية الى جانب العربية، لان حوالى أربعين في المئة من الأعضاء لا يفهمون العربية، ثم جاءت المفاجأة الثانية مع الاعتراض الثاني: وقف من يرفض النص على أن السودان جزء لا يتجزأ من الأمة العربية! وبعد جدال موجع احتدم حتى كاد يصل الى اشتباك، ابتدع أحد الدهاة حلاً وسطاً بالقول: السودان جزء لا يتجزأ من الأمتين العربية والأفريقية..
والحقيقة أن شعب السودان شعوب، وان الدولة فيه دول، وان لكل دولة فيه دولاً في الغرب ترعاها وتحميها.
ولست هنا لأنفي عروبة السودان، لكن لألفت أن علينا التنبه الى طبيعة التكوين حيث العروبة وحدها لا تحدد هويته.
[[[
هل من الضروري أن أتحدث عما هو معروف في المشرق العربي وعنه؟!
أكتفي ببعض الذكريات عن مصر وشعبها الطيب.
لم يعرف الشعب المصري العروبة كعقيدة. هو مكتف بهويته الوطنية بل متعصب لها الى حد الشوفينية، ولإسلامه كشرط ايمان. فان سألت مواطناً مصرياً عادياً عن العروبة رد عليك ببساطة: هو سيدنا محمد إيه يا سعادة البيه؟ مش هو النبي العربي؟
ولقد صدمت في زياراتي الأولى للقاهرة في الستينيات بمدى جهل زملائي المصريين بالشرق القريب منهم بالجغرافيا والعاطفة والدين واللغة، ثم بالهوية العربية. وفي ما عدا قلة قليلة فان ـ المصريين عموماً لم يعرفوا من «الشوام» ـ وهو تعبير يشمل السوريين واللبنانيين والفلسطينيين وربما العراقيين ـ الا تلك القلة ممن جاءوا اليهم هاربين من العثمانيين وفي ما بعد من الاستعمار البريطاني او الفرنسي.
كنت ازور «الأهرام» و«روز اليوسف» و«دار الهلال» و«الأخبار»، والتقي الكتاب والصحافيين والمفكرين والنقابيين والأدباء، فضلاً عن قلة من السياسيين، وأشهد ان من بين كل من التقيت كان يمكنني ان اعد على أصابع يدي من لديهم معرفة وعلاقة وعاطفة بسائر العرب وأقطارهم… من دون ان ينفي هذا ان الكل يعيش عروبة مضمرة لا يكفي ان تتبلور في السياسة، بل كان لا بد أن تصله مع رغيف الخبز والكتاب إضافة الى الكرامة والاطمئنان الى غده.
ربما لذلك كنت أكثر قدرة على تفهم موقفهم من السادات الذي عاد الى الخطاب «المصري»، وبرر كل ما ارتكبه بمصلحة مصر، وهو قد أثار فيهم كبرياء الانتساب الى مصر العريقة عندما رفض العرض السخيف الذي بعثت به اليه قمة بغداد: خذ خمسة مليارات دولار واقطع مع إسرائيل! وعد الى عربك! وليس له عرب…
كانوا يعتبرون العرب عبئاً عليهم. وكانوا يفترضون ان عبد الناصر قد بدد ثروة مصر في الإنفاق على العرب والأفارقة من دون أن يتوقفوا عند المكانة الممتازة التي بلغتها مصر في عهده، عربياً وبين دول عدم الانحياز وفي العالم كله: إحنا عايزين نعيش يا بيه! مش عايزين أمجاد!
كان في مصر كلها بضعة بعثيين، وقلة ممن يمكن اعتبارهم قوميين عرباً، بالوعي وليس بالعاطفة فحسب…
وبمنطق ربط الحاجة إلى الرغيف بالأعباء القومية كان يمكن فهم الموقف غير الودي تجاه الفلسطينيين عموماً وأهل غزة خصوصاً، استطراداً من العرب عموماً، بمشاكلهم التي لا تنتهي والتي تكلف مصر الكثير من دون أن تأتيهم الانتصارات المعنوية بما يفرج من أزماتهم المعيشية التي زادها الحصار الغربي، الاميركي أساسا، حدة.
بالمقابل كان المصري العادي يشعر ان العرب قد تخلوا عنه وتركوه، وهو أفقرهم، وحيداً في مواجهة إسرائيل، ومعها الغرب كله.
لم تكن للعروبة في نسختها الرسمية آثاراً طيبة على حياته، فانطوى في مصريته ينظر الى العرب بشيء من النفور، خصوصاً وهو يرى «نخبهم» في القاهرة تعيش حياة هانئة بين الفنادق الفخمة والعوامات وعلب الليل في شارع الهرم، وعلى حسابه غالباً.
[[[
البداية فلسطين. زماننا فلسطين، نتقدّم في اتجاهها فيكون لنا او نتقهقر مهزومين فنخرج منه الى التيه.
قبل الهزيمة في فلسطين كانت العروبة شعراً يمتزج فيه التبشير بمستقبل زاهر مع المفاخرة بماض وصلتنا منه نتف من تراث ناله شيء من التشويه وصفحات متناثرة من مراحل تاريخية موغلة في القدم بحيث لا تفيدنا كثيراً في مستقبلنا.
وأهم مقياس للتراجع العربي هو القضية الفلسطينية.
يكفي أن نتأمل ما أصاب هذه القضية الجامعة بشعاراتها ولادة الفجر ومؤسساتها فتتوفر لنا محصلة مأساوية:
وقعت الهزيمة بينما العرب، أقله في المشرق، موزعون على كيانات سياسية مبتدعة حديثاً، قسمت ما كان موحداً بالطبيعة فصار بر الشام خمس دول ليس لاي منها سابق معرفة بالدولة، ولا هي تملك ان تكون دولة مستقلة. وهكذا فقد جاء رد فعلهم «بدوياً» الى حد كبير! هل نتحدث عن الجيوش، حينذاك عن المؤسسات، عن الإدارة، عن الجامعات؟! لا شيء إلا الحماسة، والا الشعور بالقهر والا الرغبة بالرد ولو على طريقة «يا فلسطين جينالك..».
أما العروبة! التي كان بدأ الجهد لبلورتها فكرياً كمشروع سياسي له مرتكزاته النظرية، فضلاً عن معطيات التاريخ والجغرافيا والمصالح، فكان عليها ان تباشر صراعاً مع الأنظمة المستولدة قيصرياً على حساب شعار الوحدة والطموح اليها.
ولقد أسقطت الهزيمة أهم الأنظمة المعنية بالصراع: في سوريا ثم في مصر، لكن ضعف المشروع القومي حوّل الأمر الى صراعات داخلية على السلطة، لا صلة لها بالعروبة حتى كشعار.
صارت فلسطين مبرر التغيير، لكن إسرائيل ظلت ـ بإمكاناتها الهائلة وشبكة تحالفاتها الدولية ـ خارج التصور.. وغلب عند العرب الطابع العشائري على المواجهة بين دولة حديثة مسلحة حتى أسنانها، وترتكز الى عقيدة تطمح لتحقيق مشروع فريد في بابه، وبين أقوام استهدفوا بالغزو، فلا بد ان يثأروا لكرامتهم الجريحة وان كانوا يعرفون أنهم سيهزمون مع أول شمس.
أخرج شعب فلسطين من المعادلة، لا سيما بعدما أعطيت إمارة شرق الأردن ما تبقى من ارض فلسطين وأهلها لتغدو مملكة، في حين هام الآخرون على وجوههم في مخيمات اللجوء او في ديار الشتات… حيث ولدت حركة سياسية أكثر وعياً بخطورة المشروع الإسرائيلي متخذة من العروبة منصة للرد القومي على الكارثة التي أصابت العرب جميعاً، ونشأت بالمقابل حركة فلسطينية تتخذ من الإسلام شعاراً للتحرير.
بعد الهزيمة العربية الصاعقة في 5 حزيران العام 1967 تمكنت الحركة الوطنية الفلسطينية من ان تستقل بقرارها الى حد كبير، خصوصاً بعد ما وضعت يدها على منظمة التحرير، مقتربة من صورة «الحكومة ـ النظام» التي ستتكامل من خلال احتلال مقعد فلسطين في جامعة الدول العربية.
من دون التوغل في التفاصيل تكفي الإشارة الى ان كادرات الثورة والقادة الميدانيين سرعان ما صاروا وزراء وسفراء ومديرين في سلطة، كان لا بد ان تدخل لعبة المساومات الدولية، عبر لعبة التحالف والصراع مع الأنظمة العربية بسبب مواقفها، الأقرب فالأبعد..
وبعد الصدام مع النظام الأردني، كان على الثورة الفلسطينية ان تنتقل الى لبنان، لكي تغرق في مستنقع صراع الطوائف حول السلطة في النظام المعزز بدعم الدول جميعاً، والثابت حتى لو اندثرت الدولة بمؤسساتها وانقسم الشعب طوائف ومذاهب في فيدراليات مقتتلة.
[[[
انتهت حرب تشرين المجيدة، في خريف العام 1973، بنصر عسكري لم يقدر له الاكتمال، وهزيمة سياسية ساحقة، أخرجت مصر من دورها العربي الذي لا يعوضه احد. ولم يفد القرار العربي في قمة الرباط باعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في تعويض غياب مصر التي اندفع رئيسها الراحل أنور السادات الى ما هو ابعد من الاعتراف، فصالح إسرائيل ماسحاً عنها صورة العدو، وهو ما ستدفع منظمة التحرير ثمنه غالياً… وبين الهزيمة العسكرية والصلح مع العدو، تفجرت الحرب الأهلية طاحنة في لبنان، وهي في بعض وجوهها لبنانية، ولكنها في وجوهها الأخرى لبنانية ـ فلسطينية، وفي الحالتين: حرب أهلية عربية وحرب دولية على فلسطين وعلى النخب الوطنية والقومية والتقدمية في لبنان وعلى العرب في فلسطين.
قبل ذلك بسنتين كان صدام حسين قد اتخذ قراراً معززاً بتأييد عربي ـ دولي واضح بشن الحرب على ايران التي كانت الثورة الإسلامية قد أسقطت فيها الشاه وأعلنت الجمهورية بقيادة الإمام الخميني، وعلى قاعدة ولي الفقيه.
لم يكن صدام حسين وحده في تلك الحرب التي أعطاها اسم القادسية تمويهاً لطبيعتها، بل كانت خلفه قوى دولية كبرى تتصدرها الإدارة الأميركية ومعظم الغرب، أما التمويل فكان عربياً بامتياز… حتى لقد أسقطت السعودية الحرم عن الشيوعية واستقبلت موانئها سفن السلاح الملحّد، وهو يتدفق لقتال النظام الإسلامي الجديد الذي طرد أحد أعدى أعداء العرب: شاه إيران! كما أنها غضت الطرف عن شعارات البعث، الوحدة والحرية والاشتراكية، طالما أن حملته قد أضاعوا الطريق واندفعوا يحطمون أعلامهم!
[[[
وضعت العروبة، الآن، في مواجهة الإسلام وكان طبيعياً أن تكون «الدول» الغربية، وإسرائيل بالذات، هي المستفيد الأكبر من هذا الصدام الخطير الذي حاولوا عبره إيقاظ الفتنة الكبرى.
بالمقابل، فقد أفادت إسرائيل من هذا الانقسام العربي ـ الإسلامي المدمر فاجتاحت لبنان في صيف 1982 لطرد المقاومة الفلسطينية منه، وهي لم تجد بعده مأوى الا في تونس، بعيداً جداً عن فلسطين وعن مركز الاهتمام.. فصارت لاجئاً سياسياً في المنفى البعيد، جنباً الى جنب مع جامعة الدول العربية التي استبقتها الهزيمة لتكون دار التلاقي بين العجزة مجدداً. وهو ما كان بعد حين!
وهنا كانت العروبة توضع في مواجهة الوطنية الفلسطينية وبالعكس، وكان الطرفان المتكاملان من حيث المبدأ يدفعان الثمن افتراقاً بالدم.
بعد الحرب على ايران، ونتيجة لإخلاف عرب النفط وعودهم، قام صدام حسين بغزو الكويت… وكان على العرب أن يدفعوا غالياً جداً كلفة هذه الحرب من بعض ما تبقى من أسباب وحدة الموقف، خصوصاً ان الإدارة الاميركية قررت شن الحرب لإخراج الجيش العراقي من الكويت. وكان على العديد من الدول العربية ان تشارك فيها مقابل جائزة ترضية لم توصل الى أي مكان تمثلت في مؤتمر مدريد الذي فتح الباب لمفاوضات بلا سقف، ولكنها بررت ـ من بعد ـ للأردن ان يلتحق بمصر في عقد الصلح مع إسرائيل، ولقيادة منظمة التحرير ان تعقد صفقة منفردة تحت الرعاية الاميركية في اوسلو، حصلت فيها على الإذن بإقامة «سلطة» لا سلطة لها في بعض الضفة الغربية وقطاع غزة، تحت وصاية الاحتلال الإسرائيلي.
سقطت العروبة بالضربة القاضية بعدما صارت القضية الفلسطينية في عهدة الاحتلال الإسرائيلي، وبعدما فرضت عليها مواجهة غير مبررة مع الإسلام السياسي ممثلاً في ايران الثورة، لا شك في ان المستفيد الأول منها كان مشروع الهيمنة الاميركية على المنطقة الذي سوف يتكامل مع احتلال العراق وتمزيق وحدة شعبه وأرضه وتحطيم كيانه السياسي في العام 2003.
.. وبعد احتلال العراق لم تعد دنيا العرب أرضاً لأمة واحدة: تشظت وافترقت أقطارها وتقطعت الأواصر التي كانت تربطها، فإذا المغرب مغارب، والمشرق مشارق، أما الجزائر والخليج فقارة أخرى في البعيد تفصلها عن فقراء العرب أسوار من ذهب مدجج بالأساطيل الاميركية.
وعلى هامش آخر القمم العربية، التي تحولت الى صورة تذكارية جامدة يذهب الجهد من أجل عقدها بمضمونها المفترض، تصدى لي مسؤول كبير في دولة خليجية استولدت في قلب الذهب الأسود، ليقول لي بحدة:
انتهى الأمر يا صديقي، لكم فلسطينكم ولنا فلسطيننا.. فهذه الجزر الثلاث هي فلسطيننا، تساندوننا فيها بداية فنساندكم هناك، فإن امتنعتم فاذهبوا انتم وربكم واتركونا نبحث عمن يحمينا..
لنعترف أن العرب هم أكثر من استهلك أوطاناً ودولاً ومنظمات تحرير بشعارات ثورية.
ولنعترف ان بعض من حملوا رايات الحركة الثورية العربية كانوا أشد على العرب من أعدائهم.
ولنعترف ان بعض التنظيمات التقدمية قد قاتلت العروبة طويلاً فلما اهتدت اليها كان لقاء المتعوس مع خائب الرجاء.
واذكر أنني عملت طويلاً على إنجاز ملف عن الخلافات حول العروبة داخل الحزب الشيوعي السوري، وكان أطرف ما استوقفني فيه ان قيادة المركز في موسكو، أوفدت خبراء بلغاراً ليقرروا: هل العرب امة واحدة ام لا، فأفتوا بأنها امة في طور التكوين!
أما في جمهورية اليمن الديموقراطية التي استُنبتت في جنوب اليمن اثر خروج الاحتلال البريطاني منه، وتحت راية حركة القوميين العرب، فان المتمركسين حديثاً من هؤلاء القوميين سرعان ما اندفعوا يساراً حتى تأميم الدكاكين وقوارب الصيد الصغيرة ولم يتورع مذيع الليل عن اختتام برامج التلفزيون بمخاطبة مشاهديه: ..والآن، تصبحون على ماركسية لينينية!
ثم ان هذه الدويلة الماركسية التي سرعان ما انتهت محمية سعودية قد سقطت سهواً بسقوط الاتحاد السوفياتي، لكن عودتها الى الوطن الأم تكلفت في البداية حرباً أهلية شرسة داخل حزبها الحاكم ذهبت بعشرات الآلاف من المناضلين، قبل ان يقاوم قادتها الوحدة بالمدافع والدبابات حتى هزموا في قلب الدمار…
وها هي يمن الملك ـ الرئيس ـ شيخ مشايخ القبائل ـ امير المؤمنين علي عبدالله صالح ترتجّ وتترنح دولتها التي كلفت من الدماء أكثر مما كلف توحيد الولايات المتحدة الاميركية.
[[[
هل طالت قصيدة الرثاء؟!
لا يجوز ان اختم من دون الاطمئنان عن أحوال أشقائكم في لبنان الذين انقطعوا عنكم وانقطعتم عنهم لأسباب شتى أبرزها غياب العروبة عن مشروع ما سمي «الرعاية السورية» لتجديد النظام اللبناني الطوائفي، بعد مسلسل الحروب الأهلية التي لما تنطفئ نيرانها.
وها نحن قد انجزنا الانتخابات الأسوأ في تاريخ ذلك الوطن الصغير، حيث كان الشعار الطائفي بل المذهبي هو الطاغي. ولقد مشينا اليها فوق حافة الخوف بعضنا من البعض الآخر، واجتحنا في طريقنا قداسة الشهداء الذين بذلوا أرواحهم في مواجهة العدو الإسرائيلي من اجل التحرير، كما دسنا على جثة الديموقراطية بذريعة حماية التوافق والتوازن في تقاسم السلطات وصلاحياتها.
ولقد كانت انتخابات دولية بكل المعايير: شارك فيها العالم اجمع بغربه وشرقه، بعربه وعجمه، وجاءنا المراقبون ليتعلموا دروساً في المشي فوق ألسنة النيران من دون الاحتراق فيها، بغض النظر عما أصاب أو يمكن ان يصيب لاحقاً الوطن ومشروع الدولة وحقوق أهله فيه.
أما العروبة فقد حققت نصراً تاريخياً اذ نطق بها غبطة البطريرك الماروني أخيراً، وفي توظيف انتخابيي مباشر لنصرة طوائفيين في مواجهة طوائفيين آخرين!
وأما حركة التقدم الديموقراطي فقد أنجزت اذ توافق أعداؤها جميعاً على اغتيالها بالعودة الى قانون الستين الانتخابي الذي صدر في ختام حرب أهلية صغرى العام 1958، ممهداً لمسلسل حروب أهلية لما تتوقف تماما مع اتفاق الطائف العام 1989 بل هي عادت بأشكال مختلفة في مناسبات كثيرة من المؤلم استعادتها جميعاً.
هل أتعبتكم معي؟ وهل لديكم القدرة لتحمل المزيد من التعب؟
على انني اختم فأقول: لا أمل الا بالعروبة، لا خلاص الا بالعروبة، في لبنان كما في مصر، في اليمن المهددة وحدته، وفي السودان المشطر بين القبائل، وفي المغرب العربي حيث تأخذ الأصوليات الى التمزيق العرقي، وفي العراق تحت الاحتلال الاميركي الذي يكاد يفقد مع الكيان السياسي هويته العربية القادرة والمؤهلة على إنصاف الأقليات، عرقية كانت ام طائفية.
وعبر التجربة الفذة للمقاومة المجاهدة في لبنان فان المواجهة ممكنة والنصر مؤكد، إذا احترمت كرامة الإنسان العربي، وإذا ما سمح له بأن يبذل جهده وقدراته وصولاً الى حياته في سبيل حرية أرضه وتأكيد هويتها العربية بدمائه.
إن العروبة هي الحل لفلسطين اولاً، التي تكاد هويتها الوطنية تندثر، وكلما شحبت فلسطين تهاوت العروبة كعقيدة وبوابة للمستقبل، واكتسب المشروع الإسرائيلي مزيداً من القوة والمشروعية العملية بسبب تهاوي المشروع الأصلي لأصحاب الأرض والماضي والحاضر والمستقبل، لو أنهم حفظوه…
والعروبة هي الحل لمصر التي لا يعوض غيابها احد، والتي أخذتها الغربة عن العروبة بعيداً، حتى بات يصعب التعرف اليها، وهي الدولة ـ الأم التي يتهدد مستقبلها من دون العرب كما يفقد العرب توازنهم في غيابها.
والعروبة هي الحل في سوريا وفي الأردن وفي لبنان، فهي الرباط المقدس بين هذه الأقوام التي ان هي تاهت عن هويتها عادت عشائر وقبائل ببطون وأفخاذ مقتتلة، بما يسهل على أية قوة وافدة ان تأخذهم بالمفرّق الى هاوية النسيان.
والعروبة ليست خطابات حماسية وأناشيد للمناسبات، ولكنها مشروع حضاري معاصر لا بد ان تتوفر على وضعه النخب الدارسة والعارفة من أبناء هذه الأمة ممن استوعبوا التجارب الغنية التي عاشتها في قلب الصراع مع الذات ومع العدو ومع قوى الهيمنة.
وهناك محاولات جادة لإنجاز هذا المشروع يعمل عليها نخبة من المفكرين المثقلين بهمّ المستقبل.
والذين استوعبوا دروس الماضي، من دون ان يسقطوا في اسر السلطان او تبهرهم حتى تعميهم الديموقراطية كما نراها في الغرب، والتي هي نتاج مجتمعات أخرى تختلف عن مجتمعاتنا في كل شيء، وكان من حسن حظها أنها أنجزت ثوراتها بينما العالم البعيد في شغل شاغل عنها بينما هو يشغلنا في بيوتنا حتى عن أبنائنا.
هل أتعبت قلب العروبة النابض؟!
ربما، لكنني لم اقل ما ليس معروفا.
ثم انني سمعت من سيادة الرئيس بشار الاسد ما يؤكد انشغاله بهذه الهموم العربية وسعيه للمساهمة في تعزيز مناخ صحي من شأِنه ان ينعش العروبة ويؤكد قدرتها كمشروع مستقبلي، وليس كإرث من الماضي في حماية الحاضر العربي.
ويحمل العرب جميعاً في مختلف ديارهم تقديراً خاصاً لدور سوريا التي لم تهجر لغتها، ولم تغادر موقفها من الاحتلال الإسرائيلي المعزز بالهيمنة الاميركية.
كما انهم يحملون لها تقديراً إضافياً لأنها تقرأ في فلسطين «كتاب القضية العربية» التي فيها سيرة النهوض أو السقوط حتى ملامسة الاندثار.
المغفرة للإطالة ونكء الجراح، لكن الحقيقة، هي التي تبقى، أما الزبد فيذهب جفاء.
([) محاضرة ألقيت في المنتدى الاجتماعي في دمشق

Exit mobile version