طلال سلمان

محاسبة سوريا على عروبتها

ليس قرار الإدارة الأميركية ب»محاسبة سوريا« وفرض »العقوبات« عليها، أمراً طارئاً يجيء من خارج السياق العام لسياسات هذه الإدارة، عربياً.
إنه في صلب السياسة الأميركية التي تعتمدها هذه الإدارة منذ يومها الأول، والتي أعطتها التفجيرات الإرهابية في نيويورك، الذريعة والتوقيت والمدى المفتوح.
إن هذه الإدارة لم تحاول، لحظة، أن تخفي اعتمادها سياسة إسرائيلية بالمطلق، تجاه العرب عموماً، بدءاً بفلسطين، قضية وشعباً ومن ثم »سلطة«، مروراً بمن كانوا يعتبرون أنفسهم »أصدقاء واشنطن« أو يعتبرونها مرجعهم الأخير وحليفهم الأكبر والأصدق في رعايتهم، وانتهاء بمن كانوا يحاولون بغير نجاح أن يبقوا الباب مفتوحاً لعلاقة طبيعية معها، وأن يستنقذوا معها وعبرها ما كان يسمى، ذات يوم، »عملية السلام«.
بعد تفجيرات نيويورك صار بوسع هذه الإدارة الإسرائيلية الهوى (والعقيدة؟) أن تجهر بعدائها للعرب، وأن تقرّر اعتماد الحرب، ولا شيء غير الحرب معهم، تستوي في ذلك »مملكة ابن سعود« التي كلّفها التزامها بحليفها الكبير الكثير من دورها العربي (والإسلامي)، أو جمهورية حسني مبارك في مصر التي تمسك واشنطن بخناقها بالمساعدات ولو هزيلة فضلاً عن سائر الأصدقاء التقليديين الذين ضاقت مواعيد البيت الأبيض عن استقبالهم.
ولقد انكشف السر: إن قرار الحرب على العراق قد اتخذته الإدارة الأميركية غداة تفجيرات نيويورك، مع أنه لم يكن بين المفجرين أي عراقي، ولا كانت كذبة أسلحة الدمار الشامل قد لقيت بعد كل ذلك »الرواج« الذي شغلت به واشنطن الدنيا لشهور طويلة قبل مباشرتها الحرب، والذي زوّرت من أجله الوثائق والشهادات وسخرت لتبريره الخبراء الدوليين ورؤساء حكومات (طوني بلير) والأتباع ممّن حملتهم المصادفات إلى مواقع القرار في »أوروبا الجديدة«.
هي الحرب، إذاً، بأسلحة مؤثرة ولكنها غير عسكرية: هكذا يمكن أن تُقرأ »العقوبات« التي فرضتها الإدارة الأميركية على سوريا، تحت عنوان »محاسبتها« على مجمل مواقفها السياسية.
حتى ورود ذكر لبنان وضرورة استعادة سيادته واستقلاله، ضمن قائمة »المخالفات« التي تؤاخذ عليها سوريا لا يشكل خروجاً على إعلان الحرب، بل هو يؤكد طبيعتها كما يؤكد مبرراتها وحيثياتها الإسرائيلية، أصلاً وفصلاً.
فالعقوبات موجهة إلى »عروبة سوريا«، وليس إلى حكومتها واقتصادها الفقير، بالمصارف فيها وهي حكومية ومحدودة الدور، والصادرات، وهي قليلة بكل المعايير، والحجر على أموال بعض الجمعيات وبعض المواطنين الذين لهم أرصدة في بنوك أميركية، بل ومصادرتها، ودائماً بذريعة الاشتباه في ذهابها إلى »الإرهابيين«، وإن اتخذ »التبييض« عنواناً فرعياً للموضوع الأصلي »مكافحة الإرهاب«.
إن »المحاسبة« الأميركية إنما تتم على جوهر الموقف السوري، و»العقوبات« إنما تستهدف الدور السوري.
والموقف كما الدور إنما ينبع من تمسك سوريا بعروبتها.
والعروبة مسؤولية، والمسؤولية مكلفة.
لكن العروبة هي مصدر »الكبر« الذي يعطي سوريا شرف حق الرأي في مجمل القضايا العربية، ويعطيها دوراً غير منكور في تحديد »الموقف العربي« أو ما تبقى منه في مختلف المسائل المطروحة.
ولو أن سوريا ساومت على هذه العروبة أو أظهرت استعداداً للتنصل منها، بذريعة التعب، أو بالرغبة في التخفيف من ثقل المهمة، لجاءها »كبار الزوار« زرافات وأسراباً، ولتدفقت عليها شهادات حسن السلوك، مكافأة على توبتها النصوح، مساعدات
اقتصادية وأسلحة متطورة، ولتدفقت عليها المنح ولفتحت أمامها الأبواب المرصودة لمبتكرات التقدم العلمي بدءاً بالكومبيوتر وانتهاءً بعلوم الفضاء وأنواع الزراعات القابلة للحياة على سطح المريخ.
.. وها هو معمر القذافي المثل والمثال.
العروبة هي »جريمة« سوريا، وإليها يتوجه العقاب.
وما تطلبه الإدارة الأميركية من دمشق أمور هينة إذا هي ارتضت أن تتعامل من خارج عروبتها… وأبرزها، على سبيل المثال لا الحصر:
1 أن تنفض سوريا، مرة وإلى الأبد، يدها من فلسطين، قضية وشعباً، أرضاً و»سلطة«، حقوقاً تاريخية أو أملاً بدولة مغلولة الإرادة على بعض البعض من أرضها المطوقة بالمستعمرات وجدار الفصل والإرهاب العنصري… وحقوق الفلسطينيين تشمل في من تشمل الأربعمئة ألف »لاجئ« فلسطيني، الذين »استضافتهم« سوريا بالاضطرار، منذ نكبة 1948، حين طُردوا من وطنهم، والذين تعاملهم معاملة مواطنيها مع حفظ جنسيتهم المثبتة لحقهم في أرضهم التي طُردوا منها بقوة السلاح. ففلسطين مسألة إسرائيلية مرة وإلى الأبد!
2 أن تترك سوريا لبنان لإسرائيل تقرّر له مصيره، وبالاستطراد مصير سوريا، خصوصاً أن »حزب الله« الذي لا خلاف على تصنيفه »إرهابياً«، قد بلغ من القوة شعبياً ومن ثم عسكرياً ما يمكن أن يشكل تهديداً للأمن الإسرائيلي في هذه المنطقة المضطربة أصلاً، خصوصاً أن هذا الحزب على اتصال مفتوح بالشعب الإرهابي في فلسطين، يشجعه ويسانده ويساهم في إيصال صوته (وصور معاناته تحت جنازير الوحشية الإسرائيلية) إلى العالم كله.
وكل »مقاومة« عداء لإسرائيل، والرد على العداء لا يكون إلا بالحرب.
3 أما المطلب الثالث، والذي يمكن، اليوم، اعتباره الأول، فهو أن تدير سوريا بصرها بعيداً عن العراق، وأن تنسى أنه »جارها« (تجنبا لتعابير مثل الأخوة التي يمكن اعتبارها استفزازاً)، فلا تهتم بما يجري فيه اليوم، وبما يدبر لمستقبله من مشاريع مدمرة، قد لا يكون أبسطها التقسيم، وقد لا يكون أخطرها الفتنة، بكل ما قد يؤدي إليه ذلك من حروب أهلية ستتجاوز بالتأكيد حدود العراق لتغرق الأرض العربية بدماء أبنائها العرب والكرد وسائر الأقليات، وربما امتدت لتعيد إشعال نيران الفتنة الكبرى بين السنة والشيعة في أربع رياح الأرض.
إن مجرد الالتفات بعين التعاطف إلى العراق المهدد في وجوده، ككيان سياسي »عربي«، وإلى مصير شعبه المهدد في عروبته وفي دينه، يعتبر تورطاً في الحرب على الحرب الأميركية.
والحرب الأميركية لا تنفصل بالمصلحة كما بالستراتيجيا عن إسرائيل.
إن سوريا لم تذهب إلى الحرب ضد الأميركيين. لقد كبتت غضبها، وقدّرت خطورة الموقف، حين تخاذلت دول عظمى، وأشاحت معظم الدول العربية ببصرها عما يجري للعراق ولشعبه المنكوب مرتين: بطاغيته ثم بالاحتلال الأميركي… فاكتفت بأن رفضت الموافقة على الاحتلال، بل وادانته علناً، واستقبلت العراقيين، بألوان الطيف السياسي جميعاً، لتؤكد لهم أن أهلهم العرب أو بعضهم على الأقل يقفون إلى جانبهم في محنتهم، ويسعون إلى محاولة ضمان حقهم في وطنهم وحقهم في حكم وطنهم، بإرادتهم وفي ظل النظام الذي يختارونه… ولو بعد حين.
ثم إن سوريا اعترفت بحق الشعب العراقي في مقاومة المحتل، وأقرت وحدها بشرعية هذه المقاومة الوطنية.
إنها حرب إسرائيلية بعنوان أميركي على العروبة.
أو هي حرب مشتركة طالما قد سقطت الفروق بين إدارة جورج بوش وبين حكومة السفاح أرييل شارون.
وشرف لسوريا أن تخوض هذه الحرب المفروضة عليها، مع وعيها بأن لا تكافؤ… لكن بين دروس حافظ الأسد أن الكلمة الأخيرة للأرض.
والأرض لأهل الأرض، طالما ظلوا على إيمانهم بها والتشرّف بالانتماء عليها.

Exit mobile version