طلال سلمان

متى يخرج سعد حريري شعب لبنان من قفص اتهام

خلال أسبوع واحد، وعبر تصريحات علنية صادرة عن مواقع قيادية متباينة في مواقفها السياسية إلى حد التناقض، استقر في يقين اللبنانيين، وأكثر من أي يوم مضى، أنهم يعيشون بلا «دولة»، بل إن «الدولة» قد أوت إلى مهجع أحلامهم وبات عليهم أن ينتظروا طويلاً لكي يشهدوا ولادتها من جديد.
أما التصريح الأول فقد أدلى به، بمبادرة مفاجئة تكاد تكشف من طلبها، رئيس الحكومة سعد الحريري، وكان أبرز ما تضمنه إعلانه (المكتوب) تبرئة سوريا، دولة بشعبها وقيادتها وجيشها وأجهزتها الأمنية، من جريمة اغتيال والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري…
أما أخطر ما أعلنه فهو إدانة «شهود الزور» والتنصّل من المسؤولية عن كل ما قالوه أو قُوّلوه ثم استخدم كأدلة جرمية ضد «العهد البائد» ورموزه السياسية والعسكرية والأمنية، وكذلك ضد كل من ضبط متلبساً بجريمة «التعامل» مع سوريا، ولو عبر وداع قواتها العسكرية التي أجبرت على «الجلاء» عن أرض لبنان في «ظروف قاهرة» وتحت ضغط الشارع المهيج، بتحية «شكراً سوريا».
وأما التصريح الثاني فقد أدلى به وعبر مؤتمر صحافي متلفز اللواء جميل السيد، المدير العام السابق للأمن العام، وصاحب الدور المؤثر في صنع القرار خلال عهد الرئيس السابق إميل لحود، والذي اعتقل من دون تهمة محددة، مع ثلاثة من قادة الأجهزة الأمنية، وأودعوا السجن لأربع سنوات إلا قليلاً، وتمّ التشهير بهم في المهرجانات الحاشدة، ورُفعت صورهم باعتبارهم مطلوبين للعدالة، وأضيرت عائلاتهم في سمعتها فوُجّهت إليها الإهانات وطورد أفرادها وكأنهم «جناة» أو متسترون على الجريمة.
ولعل أخطر ما قاله اللواء السيد إنه سيظل وراء حقه حتى يناله، حتى لو اضطره الأمر إلى تحقيقه بيده، لافتاً إلى ضرورة محاسبة من اخترع شهود الزور فدرّبهم ولقّنهم الإفادات الكاذبة، وموّلهم ورتّب لهم الملاجئ الآمنة، مورداً أسماء أربعة وعشرين متهماً بينهم وزراء سابقون وسياسيون نافذون وسفراء سابقون وقادة أجهزة أمنية وصحافيون في الداخل والخارج العربي وفي عواصم أجنبية إلخ…
لن ندخل، هنا، في مناقشة ما قاله الرئيس سعد الحريري، مع أنه يستحق التوقف طويلاً أمامه وبأسئلة مقلقة حول الظروف القاسية التي فُرض على اللبنانيين أن يعيشوها على حافة الفتنة أحياناً، وفي قلبها أحياناً أخرى، على امتداد السنوات الخمس المنقضية على جريمة الاغتيال…
كذلك فلن ندخل في مناقشة الاتهامات الخطيرة التي وجهها اللواء جميل السيد إلى ما يمكن اعتباره رموز «الدولة» بمؤسساتها المختلفة، السياسية منها والأمنية.
سنقفز عن ذلك كله، عمداً، لنصل إلى الاستنتاج الذي نفترض أن اللبنانيين بمجموعهم قد توصلوا إليه، وبالدليل الملموس هذه المرة، مع أنهم كانوا قد استقروا عليه في ما يشبه اليقين، من قبل، ومؤداه: أنهم يعيشون في هذا الوطن الصغير والجميل بلا دولة ترعى شؤونهم وتحقق لهم الحد الأدنى من الرزق والعدل والأمن والكرامة.
والمفارقة أنهم، وهم يفتقدون «دولتهم»، يجدون فوقهم ومن حولهم دولاً كثيرة تثقل بوجودها على هذا الوطن الصغير، وفيهم «دول داخلية» و«دول عربية» و«دول أجنبية»، ولكنها جميعاً ليست هنا من أجلهم ولا هي جاءت بطلبهم أو لتأكيد استقلالهم ذي العنفوان الفريد…
بل إن اللبنانيين يتثبتون، أحياناً، وبالملموس، أن معظم هذه «الدول» لا تعترف بهم، كشعب، ولا هي تريدهم «مواطنين في دولة»، وتفضّلهم رعية لطائفة أو مذهب يمكن تحويلها أو تحويله إلى «محمية» لزعيم يستبطن دولة أو مجموعة من الدول اللاغية «للجمهورية اللبنانية» مالئة الدنيا وشاغلة الناس…
كذلك فإن من فوق اللبنانيين ومن حولهم كثيراً من الرؤساء والقادة والزعماء، بألقاب رسمية مفخّمة، بحيث يتأكد أن «للدولة» أصحاباً، فلا هي سائبة ولا هي مشاع، ولا هي تخص «شعبها» بالضرورة، بل إنها تكاد تتوزع ممالك وإمارات ودوقيات وإقطاعيات محدودة ومعدودة، بعدد «أصحاب الدولة» وأصحابهم وندمائهم ومهرّجيهم وحملة رسائلهم ووكلائهم في الجهات…
ولكي تتأكد سيطرة هؤلاء الشركاء ـ الأعداء على «الجمهورية السعيدة» لا بد بين الحين والآخر، من بعض الحروب الصغيرة أو الفتن الخطيرة، كمثل ما جرى على امتداد السنوات الماضية، وتحديداً بعد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لقد تحوّلت الجريمة المروّعة، وبعد ساعة واحدة من وقوعها، إلى استثمار خطير لدول عديدة، وأداة ابتزاز سياسي سريع المردود، في الهيمنة السياسية داخلياً، كما في العقارات والمصارف والشركات التي اصطنعت على عجل حتى لا يذهب الدم هدراً…
جاءت الجريمة بحكومات محكومة بأغراض ومصالح مموّهة بطلب الثأر، وتحقيق العدالة، فكانت أفضل جسر إلى تحقيق مطالب «الدول» والمنافع والمطامح للوكلاء المحليين وبسرعة الصاروخ.
لقد أُسقطت رايات الوطنية ورموزها، وتمّ تسفيه العروبة وشعاراتها التي كان لها شيء من القداسة والاحترام، وضربت الجوامع المشتركة بين من كانوا يرون أنفسهم شركاء في وطن واحد يتقاسمون فيه السراء والضراء…
وعبر إدانة سوريا تمت إعادة الاعتبار إلى إسرائيل فأُسقطت عنها طبيعتها كعدو وطني وقومي (وديني؟)، وكادت تُصنّف حليفاً.
وعبر تسفيه المقاومة وتحقير شهدائها صارت إسرائيل شريكاً في القرار السياسي الداخلي، مباشرة أو عبر قرارات مجلس الأمن الدولي الذي صار بمثابة الوصي على سلوك اللبنانيين وتصرفاتهم والعلاقات في ما بينهم.
تمّ هدر المعايير والقيم فصار الافتراء الكاذب طلباً للعدالة، وصار الاتهام الباطل قاعدة للحكم، وصار توكيل «المجتمع الدولي» بشؤوننا الداخلية الحميمة توكيداً للاستقلال والقرار الوطني، وصار شعار «لبنان أولاً» المزوّر والمزيّف والموجّه ضد الأخ والصديق الذي يأخذ إلى العدو مباشرة هو قاعدة الحكم.
وهكذا، وعبر استعراض متسرّع للنتائج، تكاد تبدو جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وكأنها وقعت بهذا التخطيط الدقيق، وبهذا التصنيع المتقن، طلباً للنتائج التي نعيش في ظلها مأساتنا المفتوحة، عنوانها إفقادنا شخصية استثنائية تركت بصمتها فوق تاريخنا السياسي، أما مضمونها فهو لما يتكامل بعد وما زال ينذرنا بكارثة وطنية إضافية عبر التلويح شبه الدائم بشبح الفتنة.
[ [ [
أخيراً، ومع التنويه بشجاعة الرئيس سعد الحريري في تنصّله ـ أخيراً ـ من شهود الزور، فلا بد من التساؤل: إذا كان التحقيق في ما عرفنا من سياقه خلال عمل المحققين الدوليين ـ وقد ثبت أن بينهم من هو مطعون في نزاهته فضلاً عن كفاءته ـ قد تسبّب بكل هذا الاضطراب الذي جعل لبنان على كف عفريت، وساهم في شطب مؤسساته الدستورية بدليل «التهريب» المخطّط لكي يضع مجلس الأمن يده على قضية الاغتيال ويجعل المحاكمة، ومن ثم المحكمة، والشعب اللبناني جميعاً، تحت البند السابع…
وإذا كان الرئيس سعد الحريري قد نفض يديه من شهود الزور، الذين استخدموا للإيقاع بالشعب اللبناني جميعاً، وطبعاً بمعرفته ودعمه، قبل الإيقاع ببعض من كانوا أركان النظام القديم…
وإذا كان أركان تكتل 14 آذار، وهم بمجموعهم في طليعة المستفيدين من الاستثمار الوحشي لجريمة الاغتيال، قد فقدوا توازنهم ولم يعودوا يعرفون كيف يطمرون آثار جريمتهم في تبني شهود الزور واستثمار أكاذيبهم وافتراءاتهم لكي يصيروا نواباً ووزراء وقيادات نافذة في «العهد الجديد» ومنافعهم الواسعة.
إذا كان ذلك كله قد وقع فأطاح ما كان تبقى من ملامح «الدولة» في لبنان فكيف يمكن أن يبقى للحكم معنى، وهو قائم ـ بمعظم أركانه ـ على استثمار الزور والتزوير والاتهام بالباطل للشعب اللبناني وكأنه شريك في الجريمة؟!
ألم تحوّل إبرة الاتهام من سوريا، شعباً وقيادة، إلى المقاومة ومجاهديها وجمهورها الواسع، وبالزور والتزوير أيضاً، وبعد خمس سنوات طويلة من تركيز الجهد على إدانة الحكم في دمشق من ضمن خطة موضوعة لتشجيع الانقلاب عليه؟!
ماذا تبقى لعمل المحكمة الدولية وادعائها العام الذي تطوّع أركان 14 آذار «لكشف» مضمون تقريره الاتهامي من قبل أن يكتب؟!
وإلى متى سيفرض على الشعب اللبناني أن يبقى في قفص الاتهام مهدداً بالفتنة نتيجة الاتجار بالجريمة التي أودت بالشهيد الكبير، والتي تهدد لبنان في وحدته، إذ تكاد تودي بما تبقى من دولته؟!
لقد باشر الرئيس الحريري تلاوة فعل الاعتراف وبعض فعل الندامة، كما في التعاليم الدينية للإخوة المسيحيين… لكن ذلك لا يلغي الحاجة إلى قرار شجاع باستنقاذ ما تبقى من الدولة ووحدة الشعب، قبل فوات الأوان…
والكلمة بعد لسعد الحريري، وإلا صار جميل السيد هو الشاهد الملك، بالظلم الفادح الذي لحق به وبغيره ممن اتهموا بغير حق، بل وبغير دليل، على سقوط هذه الدولة المهترئة بكل رموزها.

Exit mobile version