طلال سلمان

مبروك فائزين ولكن ماذا عن مجلس

مبروك للفائزين في المرحلة الأخيرة من الانتخابات النيابية التي جرت، أمس، في شمالي لبنان. لقد نجحوا فتقدموا لمواجهة الصعب، بل الأصعب من المهمات التي يحب البعض أن يراها تأسيسية في المقبل من الأيام.
وإذا كانت النتائج قد غيّبت بعض من كانوا في مرتبة »الأقطاب« و»الثوابت« في الحياة السياسية، فمن المؤسف أن تكون أسباب غيابهم أو تغييبهم مدموغة بالطابع الطائفي أكثر من اتصالها بمشروع وطني متكامل يقدم بديلاً جدياً لهذا النظام الذي كان طائفياً والذي غدا الآن أكثر طائفية، بشهادة الجولات الانتخابية جميعها وشعاراتها المعلنة أو المموّهة..
مبروك، بالتحديد، لسعد الحريري الذي خاض تجربته السياسية الأولى، بالاضطرار، ونجح في هذه المهمة التي كانت صعبة ولكن غير مستحيلة، إذ أن صورة والده الشهيد رفيق الحريري قد شقت له الطريق بتأثير الدم الوهاج الذي أريق غيلة في بيروت التي أرادها »عاصمة للغد«..
هو الفائز الأكبر، وربما الأوحد، في هذه المحافظة الكبرى، التي وفرت له أن يتقدم باعتباره »الزعامة الإسلامية« الجديدة، ومن خلال هذا الموقع فإنه بالتحالفات التي اختارها أو التجأت إليه أو استعان بها لضمان التفوق المطلق سيكون »القطب الأكبر« في المجلس النيابي الجديد.
لعله »الأول« الذي استطاع أن يجمع طرابلس وسائر الشمال إلى بيروت وبعض البقاع، ولو عبر شبكة من التحالفات المعقدة، حتى ليمكن القول إنه »المرجعية السنية« الوحيدة، في المجلس النيابي الجديد كما في »الشارع«… وهو قد أكد فوزه بهذا الموقع عبر »عملية ديموقراطية«، من حيث المبدأ، حتى لو تزايدت الاعتراضات على بعض أنماط التحالفات المفاجئة التي اعتمدت فيها، أو بعض أساليب التعبئة الجماهيرية التي تجاوزت حدود المتوقع والمألوف. ولعل هذا كله يؤهله لأن يعتمد »عربياً« و»دولياً«… وهو، بالاستطراد، مصدر »الشرعية النيابية« لأية حكومة ستشكل غداً، سواء أكانت برئاسته أم أنه قرر »تفويض« غيره بتشكيلها لأسباب شخصية، أو لأسباب سياسية تتصل بطبيعة المهام التي قد يطلب إليه تنفيذها، والتي قد تتجاوز القدرة إضافة إلى الرغبة.
لعله في هذا قد اختصر ودائماً بوهج دماء أبيه الشهيد الزمن الذي احتاجه رفيق الحريري، الآتي من شبكة علاقات عربية ممتازة، والمعزز بصداقة غالية مع رئيس فرنسا الذي ساعده في فتح العديد من أبواب العواصم الكبرى، فضلاً عن دوره اللبناني (والسوري) في مواجهة تطورات خطيرة (ما بين اتفاق 17 أيار واتفاق الطائف)..
على أن هذا الانتصار الباهر يجب ألا يطمس جوانب الصعوبة التي سيتوجب على سعد الحريري أن يواجهها وهي أكثر دقة وخطورة بما لا يقاس من مخاطر خوض الانتخابات التي كانت بعض عوامل النجاح فيها متوفرة منذ اللحظة الأولى، وأخطرها أن تجري في موعدها المقرر وبقانونها القديم… فالموعد بدا »أقدس« من أن يرجأ ولو إلى شهرين أو ثلاثة.
بين جوانب الصعوبة:
؟ إن نتائج هذه الانتخابات تأتي مدموغة بطابع الثأر من »العهد المباد«، سواء بشقه المحلي، أم بالشق المتصل ب»الوصاية السورية«، مع أنها استولدت قيصرياً من رحم ذلك »العهد«، وبموجب قانونه الانتخابي: الثأر للرئيس الشهيد رفيق الحريري (ومشروعه السياسي المجهض بالتآمر عليه، كما يقول أنصاره)، والثأر للجنرال المنفي ميشال عون (الذي يروّج لبرنامج لم يكن اللبنانيون يعرفون عنه الكثير، قبل اليوم)، والثأر »للقائد الأسير« سمير جعجع (ومشروعه المعلن قبل سجنه كان يختلف إلى حد التناقض المطلق لمشروع الجنرال، ويتناقض كلياً مع مشروع رفيق الحريري)..
وإذا ما استذكرنا أن الدروز قد أعادوا اصطفافهم وراء زعامتهم المفردة ممثلة بوليد جنبلاط.
.. وأن الشيعة قد أكدوا وبالاستفتاء المفتوح التزامهم بقيادتهم الثنائية وإن توحدت حول شعار »حماية المقاومة«.
إذا ما استذكرنا ذلك كله لبدا واضحاً أن النصاب الطوائفي قد تكامل، و»تساوت المجموعات الطائفية إذ أصبح لكل منها زعيمها«، على حد ما قال البطريرك الماروني في عظته، أمس الأحد، خصوصاً »وأن فئة من الشعب يعني الموارنة قد صوّتت هذه المرة لتبرهن أنها موجودة«.
؟ ويعني هذا أن كل طائفة قد ذهبت إلى مرجعيتها لتدعمها، معلنة فشل مشروع »الدولة« الذي كان اتفاق الطائف يشكل ولو من حيث المبدأ أساساً لوحدة وطنية تقوم عليها، فتشكل الإطار الجامع المانع لأية وصاية أو انتداب، سواء بذريعة حماية الطوائف، أو بتأثير وهم مفاده أن الآخرين قد يبنون للغير دولتهم..
لكأنما جاءت الانتخابات لتدلل على عمق المأزق الوطني الذي يعيشه اللبنانيون، والذي لا مخرج منه بالتحالفات على »القمة« بين قادة الطوائف ومرجعياتها.
لقد انتصرت المذهبية على الطائفية، وانتصر النظام الطوائفي، مرة أخرى، على الوطن.
ولسوف يكون المشهد في المجلس النيابي الجديد طريفاً في الغد، حيث ستتقاسمه كتل الطوائف التي لن ينجح التحالف بين بعضها والبعض الآخر (المختلف) في نفس الطابع الطائفي عن المجلس الجديد… وسيكون انقسام المجلس إلى كتل طائفية »متواجهة« ولو من قلب التحالف، سبباً لشلله وعجزه عن انجاب مؤسسة حكم على قاعدة وطنية ممثلة بمجلس الوزراء.
السؤال: هل سيستطيع هذا المجلس النيابي الجديد ان يتخطى تكوينه الذاتي ليرسم الإطار الشرعي لحكم مختلف، لا تقتصر مهمته على الانتقام من الماضي ومن »الحاضر«، بل هي تقدم وعداً بمستقبل سياسي لهذا البلد الصغير المحكوم بمرجعياته الطائفية؟!
واستطراداً: هل سيستطيع هذا المجلس إنجاب حكومة وطنية، حتى لو نجحت »الوصاية الدولية« في استيلاد »حكومة انتقالية« بعمر يمتد حتى نهاية »العهد« الممدد له، والذي تأكدت استحالة خلعه مع فوز الجنرال عون في تشكيل صاحب الحق »بالفيتو المسيحي«؟!
وللوصاية الدولية عذرها: فهي مضطرة للتعامل مع الواقع، ومع النتائج الفعلية للانتخابات… وطالما ان اللبنانيين هم بأكثريتهم الساحقة طائفيون، وقد استولدوا بالديموقراطية!! مجلساً طوائفياً، إذاً فلا بد ان تعكس السلطة التنفيذية هذا الواقع.
صار لرئيس الجمهورية مناصرون »لشرعيته« التي طمع كثيرون في الطعن بها لخلعه قبل انتهاء ولايته الممددة… وقد اضفت الطائفية على الشرعية طابعاً هجومياً وإن ترجم نفسه سياسياً بضرورة احترام الدستور والمؤسسات، والأخطر منها: العرف!
وبات صعباً كل الصعوبة تشكيل حكومة بالمواصفات التي وضعتها الوصاية الدولية، فأية حكومة »شرعية« ستستطيع المجاهرة بتأييدها لتنفيذ ما يسمى »الشق اللبناني« من القرار 1559، والمتصل بسلاح المقاومة وبالوجود الفلسطيني…

ليس سراً أن بعض المسؤولين الأميركيين قد أبلغوا »من يعنيهم الأمر« ان »الالتزام بالشق اللبناني من ذلك القرار شرط وجود للحكومة الجديدة«… وهذا معناه ان ازمة وطنية خطيرة مرشحة لأن تطل عبر الحكومة الأولى للعهد المجدد، خصوصاً إذا ما استذكرنا مواقف الكتل الرافضة بالمطلق لشروط الوصاية الدولية هذه، وإذا ما انتبهنا إلى ان رئيس الجمهورية وحتى هذه اللحظة ما زال يعلن من موقعه وقوفه ضد كل ما يمكن ان يمس سلاح المقاومة ودورها السياسي.. متناقضاً في ذلك مع داعمه الأول بقوة »الفيتو المسيحي« المؤيد لمنطوق القرار، حتى وإن غمغم بتأييده..
* * *
للوهلة الأولى يبدو كأن المجلس الجديد يأتي لتكريس الانقسام الطائفي في البلاد وليس لتجاوزه، فهو يحمل من تشوهات الولادة ما يمنعه من لعب الدور الذي يريد الناس أو يأملون في أن يلعبه…
إن صورة المستقبل لم تكسب مزيداً من الاشراق مع ولادة هذا المجلس الجديد، بل لعلها قد ازدادت غموضاً مثيرة مخاوف جدية من العجز عن إقامة سلطة منسجمة وقادرة على التصدي للمهمات شبه المستحيلة المطروحة على البلاد في ما يتعدى السياسة إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة وإلى الضائقة الاجتماعية التي لا تنفع الطائفية في علاجها، والتي ذهبت تطورات الاحداث المتلاحقة بإمكان مواجهتها بمشروع وطني متكامل له قواه السياسية المؤهلة والقادرة.
إن مجلساً منقسماً على ذاته طائفياً ليس أقصر الطرق إلى الوحدة.
وإن مجلساً قد استولدته الوصاية الدولية بقانون أعرج وفي ظروف تحكمها مشاعر الانتقام، ليس هو »المؤسسة الأم« المكتملة الأهلية لأن ترسي الأساس لإعادة بناء الدولة على قاعدة اتفاق الطائف، الذي لا يحتاج واحدنا إلى »خبير اختصاصي« للتثبت من أن نسبة لا بأس بها من »نوابه« تسكت عنه محرجة، حتى تأتي لحظة إعلان المواقف فتنادي بنقضه..
* * *
مبروك للفائزين..
لكن المقبل من الأيام اصعب بالمهمات المطروحة عليهم عبر مجلسهم الجديد من كل ما سبق أن واجهه زملاؤهم السابقون في عصر »الوصاية السورية« التي كان يسهل تحميلها المسؤولية عن كل شيء بالمطلق.
أما الوصاية الدولية فأقصى ما يمكن أن تهتم به هو »الأمن«، وهو اندراج لبنان في مشروعها السياسي للمنطقة، والباقي بالنسبة إليها تفاصيل.
مبروك للذين »انتصروا« في المعركة الصغرى، والذين نتمنى ألا يواجههم التحدي في المعركة الكبرى غداً، وهم غير متنبهين أو غير مزوّدين بالقدرة الضرورية لدفع الأذى عن هذا الوطن الصغير الذي ينام على حلم الديموقراطية فيستفيق على كابوس الطائفية وقد حرمه غده.

Exit mobile version