طلال سلمان

»مبادرة« مرفوضة ام مشروع انقلابي على طائف

كان الوضع السياسي والنفسي في لبنان إلى ما قبل انطلاق الرئيس نبيه بري في »مبادرته« حيال البطريرك الماروني الكاردينال صفير »سيئاً«، لكنه الآن وفي ظل »اغتيال« هذه المبادرة بات »خطراً« وخطراً جداً..
فاليوم يتبدى، في ضوء التصعيد السياسي الذي شكله اغتيال المبادرة ثم التشهير بمضمونها البسيط، وكأن باب الحوار حول المسائل الأساسية المختلف عليها داخليا قد أُغلق ليخلي الجو لانقسام مرشح لأن يتسبب في إحداث شرخ في العلاقات في ما بين اللبنانيين حول أمور عدة قد يكون »الوجود السوري« بين أبرز عناوينها لكنه ليس موضوعها الأوحد، وربما ليس هو بيت القصيد فيها، ولا بد من نظرة استكشاف أوسع وأعمق وأبعد من المسافة بين بيروت ودمشق.
وبمعزل عن الملابسات التي رافقت »المبادرة« طارحة العديد من التساؤلات حول التوقيت، ومدى التوافق عليها داخل الحكم، ومدى تعبيرها بالدقة عن الموقف الرسمي السوري، فضلاً عن مساحة الحركة التي يتمتع بها »المبادر« وحدود اجتهاده، فإن الطريقة التشهيرية التي اعتمدتها بكركي في رفضها تتجاوز شخص الرئيس بري وسلامة »أوراق اعتماده« لتمضي في خلق جو شبه »حربي« يعطل الحوار كلية بين اللبنانيين أنفسهم ويعيد فرزهم على قاعدة: من ليس معي فهو ضدي.
فأن يرفض البطريرك صفير، من موقعه المميز، مبدأ الحوار يحوله من صاحب وجهة نظر أو صاحب موقف مبدئي معترض إلى »مشروع انقلابي« يرفض أي تسوية وينادي بالكل أو لا شيء، ويكاد يعيد ذكريات مُرَّة كافح اللبنانيون طويلاً لنسيانها وتجاوزها طلبا للسلام النفسي والأهلي معا.
والحقيقة ان البطريرك صفير تكشف عن قائد سياسي يكتسب يوما بعد يوم صورة »زعيم المعارضة« الذي يجهر برفض طروحات النظام تاركا لمناصريه أن يروا فيه »البديل« أو المرجع الصالح لإعلان »الثورة« طلبا لهذا البديل الموعود.
مبادرة نبيه بري هي في هذا المجال مؤشر لعب دور الكاشف لحدود الاعتراض ومدى »جذريته«.
قد تكون »المبادرة« ناقصة، أو غير ملبية للاحتياج، ولكن الرد جاء ليعلن أن »الحوار« قد غدا صعبا الى حد الاستحالة، وأن الانقسام تخطى »الوجود السوري« ليصير شاملاً لمعظم الأساسيات: هوية لبنان ودوره والموقف من نظامه ومن حكمه ومن نهج هذا الحكم على الصعيد الوطني وليس من ممارساته الإجرائية.
ويمكن فهم الموقف الرسمي السوري، كما عبّر عنه وزير الخارجية فاروق الشرع بدقة أمس الأول، منطلقا من اتفاق الطائف ومنتهيا به، حاصرا المسؤولية بشأن الوجود العسكري السوري بالقيادتين والحكومتين من دون أي طرف ثالث، ودائما على قاعدة اتفاق الطائف.
هذه لن تكون النهاية، طبعا، لدى الأطراف الأساسية التي تطرح »الوجود السوري« في سوق المزايدة السياسية، مستهدفة الحكم في لبنان والقاعدة الدستورية التي يرتكز إليها بمعزل عن تشوهات التطبيق وهي: اتفاق الطائف.
وبالتأكيد فإن الحملة التي نُظمت لاغتيال مبادرة نبيه بري ستعنف أكثر وهي تتناول الموقف السوري كما عبّر عنه الوزير الشرع، الذي قلما تحدث في الشأن الداخلي اللبناني والذي عُرف بدقته في اختيار كلماته فكيف والموضوع بهذه الأهمية والحساسية؟!
هو اتفاق الطائف إذن…
الحكم قاعدته اتفاق الطائف، والوجود السوري يرتكز إلى اتفاق الطائف، والمطلب المعلن للمعارضة السياسية كما تعبّر عنها بكركي هو الالتزام بتنفيذ اتفاق الطائف.
لكن لغة المعارضة تنتمي إلى عصر ما قبل الطائف، أو أن تداعياتها تتجاوز مضمون اتفاق الطائف مستعيدة الكثير من مفردات النظام السياسي القديم الذي دمر لبنان عبر حرب أهلية متعددة المراحل والوجوه والأطراف والتسميات، ممهداً لقيام ما يسمى »الجمهورية الثانية«. والبطريرك صفير أعرف الناس بالنظام القديم وبالمعترضين على اتفاق الطائف سواء من خارجه أم من داخله.
فهل نحن أمام دعوة للعودة الى النظام القديم، نظام ما قبل الطائف؟!
هل هذا الاعلان المتكرر لليأس من الحكم القائم، وتجاوزه دائماً، سواء »بنداء المطارنة الموارنة« الموجه »الى من يهمه الأمر داخل لبنان وخارجه«، أو باغتيال مبادرة بري، وبمعزل عن مدى الصح والخطأ في الاجتهاد بصياغتها، يبطن الدعوة الى نقض العهد مع اتفاق الطائف واعادة الاعتبار الى النظام القديم بشعارات سياسية وان بمضمون طائفي؟!
ان الحملة الضارية التي تشن تحت لافتة الاعتراض على الوجود السوري تصيب بداية الحكم القائم بمؤسساته جميعاً، رئاسة الجمهورية، المجلس النيابي ورئيسه المبادر بشكل خاص، الحكومة، وصولاً الى الجيش ودوره، والقضاء والأجهزة الأمنية.
وهذه الحملة السياسية الظاهر، الطائفية الباطن، تقترب في لحظات من المنطق الشوفيني وهي تستثير »عنصرية« اللبنانيين لخوض »حرب الكعك«!
ونتائجها ظهرت وتظهر في لبنان انقساماً في الرأي والموقف، ليس من حول أشخاص الحاكمين وسلامة تصرف المسؤولين في مختلف مواقعهم، وانما حول القاعدة الدستورية والقانونية لهذا الحكم، أي اتفاق الطائف واصلاحاته والتطبيقات.
هذه المقدمات تسوق الى الاستنتاج وكأن ثمة مشروعاً انقلابياً يدبر في البلاد، خصوصاً اذا ما اخذ بالاعتبار التوقيت والظروف المحيطة، بدءاً بجنون القتل الذي يجتاح اسرائيل ويعصف بالشعب، أطفالاً ونساءً ورجالاً في فلسطين المحتلة، وانتهاء بتهاوي »العملية السلمية« بعد التخلي الأميركي المعلن عنها والانحياز المكشوف الى الحكم الدموي الاسرائيلي.
على ان التمني هو ان يكون هذا الاستنتاج خاطئاً، ليس رحمة بالحكم القائم، وليس لمجرد الحرص على السلم الأهلي، بل أساساً بدافع الحرص على سلامة لبنان حاضراً ومستقبلاً وعلى حفظ دور بكركي كمرجعية روحية مسؤولة ومعنية بالشأن الوطني وبرعاية الحوار بين اللبنانيين لتوطيد ركائز وحدتهم الوطنية.
وبعد ذلك يمكن الكلام مع دمشق وعنها وليس قبل..
مع التذكير بأن دمشق داخل اتفاق الطائف وليست خارجه وهي احدى ضماناته أمس واليوم وغداً.

Exit mobile version