طلال سلمان

مبادرة لانقاذ عهد

تأتي مبادرة الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد لتؤكد ما يستشعره اللبنانيون من المخاطر على سلمهم الأهلي وعلى »دولة القانون والمؤسسات« أو ما تحقق منها، والتي بلورتها الصراعات المحمومة التي تجاوزت كل حد مقبول أو معقول، متخذة سياق »إما نحن وإما هم«، بل ربما سياق »يا قاتل يا مقتول«.
ولقد أتت هذه المبادرة بالتدخل الشخصي والمباشر للرئيس بشار الأسد بعدما تعذر عقد هدنة، وفشلت مساعي التهدئة، واستحال التلاقي بين الأطراف »المختصمين« في لبنان، خصوصا بعدما دخل الحكم طرفا مباشرا في الحرب واتخذ بعض أركانه من الانتخابات فرصة لتصفية الحساب؟!
والحقيقة أن لهذه المبادرة ما يبررها سورياً إضافة إلى ما يفرضها لبنانياً، فكثير من صيحات الحرب التي ارتفعت في العاصمة والجبل وأنحاء أخرى، تستهدف سوريا مباشرة وبالذات وليس عبر »حلفائها« و»أصدقائها« في لبنان، كما جرت العادة في »مزايدات« سابقة.
لقد اتخذ بعض القوى السياسية في لبنان، ومنها من كان في موقع »الحليف«، من الانتخابات النيابية فرصة للمزايدة والضرب على وتر الحساسيات الطائفية والمذهبية، بطرح مسألة »الوجود السوري« كبند أول على جدول الاهتمامات والمطالب، يتقدم على كل ما عداه من مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وكلها خطير ولا يجوز إرجاؤه أو القفز من فوقه..
بل لقد نسبت هذه القوى المشكلات وتفاقمها الى الوجود السوري ذاته، فرأت فيه سببا للركود الاقتصادي والضياع السياسي وتهاوي السلطة إضافة الى انتقاصها شروط السيادة والاستقلال واستعادة لبنان دوره العربي ومكانته في العالم الخ..
أكثر من ذلك: لقد قزَّمت بعض المراجع والقوى النصر بالمقاومة على الاحتلال الإسرائيلي، ثم حقَّرته بكل ما بُذل من أجله من شهداء ودماء وتضحيات غالية فطمسته بمطلب العدو الأول: نشر الجيش لضمان أمنه على الحدود، ومن ثم مطلبه الثاني بإخراج القوات السورية من لبنان (وتصفية المقاومة) كمدخل للحصول على مساعدات الدول المانحة التي ستلغي الديون وتعيد الازدهار الى الجنة اللبنانية المفتقدة أو المغيَّبة.
على أن في طليعة الأسباب التي دفعت بالرئيس السوري الى تقديم الاهتمام بالوضع في لبنان على كل ما يشغله، في بداية عهده من مسؤوليات جسام داخل سوريا ذاتها متصلاً بدورها ومكانتها وأسباب تقدمها، افتقاد المرجعية المؤهلة لوقف التدهور، لبنانياً، وتفاقم »الحروب« بما بات يهدد فعليا ركائز الاستقرار جميعا.
لقد تهاوت قدرة المؤسسات على الإنجاز، وتوالى اعتراف الوزراء، »كبيرهم« والآخرين، بفشل الحكومة في مهمتها، ولو بحدها الأدنى.
ثم إن الحكومة تلبس لبوس الحرب وتنخرط في المعارك الدائرة حتى عنقها، هذا إذا لم يصدق اتهامها بأنها هي من أشعل بعض هذه الحروب، أو أنها من أجَّج نيرانها، على أقل تعديل.
الأخطر نجاح »التواطؤ على رئيس الجمهورية لجعله طرفا في الانتخابات«، وتصويره وكأنه خصم لبعض الأشخاص والقوى، وحليف أو داعم لهذا أو ذاك من المرشحين، مما هز صورة »المرجع الصالح«، وأضعف دور رئاسة الجمهورية كملاذ أخير لأصحاب الشكوى ممن يتهمون الأجهزة الأمنية و»الأشباح« بشن الحرب ضدهم والتدخل المباشر والعمل لإسقاطهم في الانتخابات، سواء بالبطاقات المزورة أو بالمجنسين أو بترويع الأنصار أو بتهديد من يخالف إرادة النافذين بعقاب شديد يطال المنافع والمصالح وربما ما هو أكثر.
بهذا المعنى يبدو الرئيس السوري بشار الأسد وكأنه يبادر لحماية موقع رئيس الجمهورية، وتحصينه، وتمكينه من استعادة دوره كمرجع أخير، والخروج من دائرة الاشتباك الذي استُدرج إليه أو زجَّه فيه مَن يريد الاستقواء به على خصومه بتصويرهم خصوما للعهد وأعداء لا بد من »شطبهم« من الحياة السياسية في »جمهورية المثل والمثال«.
كذلك، فإن بين استهدافات الرئيس الأسد وقف حروب الحلفاء بين رفاق الصف الواحد، والتي تنذر بمخاطر جدية تتجاوز النكايات والمكايدات، سواء في الشمال، حيث تتخذ أبعادا طائفية، أو في الجبل حيث كادت تصل إلى حد الدعوة لمواجهة مباشرة مع رئيس الجمهورية إذا كان يريد عسكرة النظام…
ومن حق دمشق أن ترى في ذلك كله تهديدا جديا لأمنها القومي، وليس مجرد مزايدات بين أطراف في لعبة سياسية محلية محدودة.
ولعل كثيرا من اللبنانيين قد استأخروا تحرك دمشق، وإن كانوا قدّروا أنها حاولت أن تستنفد كل وسائل المراجعة والنصح والتنبيه، فلما ثبت لها أن الكل ماض في اللعبة الجهنمية إلى مداها الأخير كان لا بد من أن تتحرك، وأن تواجه الجميع بمسؤولياتهم عن الوضع الخطر الذي استولدوه ثم عجزوا عن علاجه.
فهل تكون هذه المواجهة نقطة بداية جديدة، حتى لا نقول حركة تصحيح لما كان خطأ أو جنوحا في المسيرة التي يتمنى اللبنانيون نجاحها من أجل أن يواصلوا حياتهم برغم الضيق في وطنهم ولا يهربون منه لأنهم لا يجدون فيه لا الرزق ولا الأمان ولا المرجع الذي يبقى ملاذهم، متجاوزاً الحساسيات والخصومات، والحرب على طريقة »إما نحن وإما هم«…

Exit mobile version