طلال سلمان

مبادرة فرنسية جديدة لماذا واين

تطل فرنسا، مرة أخرى، على أرض الصراع المحتدم،
هذا معناه أن السياسة الأميركية في منطقة »الشرق الأوسط« قد وصلت الى طريق مسدود، وأنها بحاجة إلى مَن يفتح لها »باب النجاة« لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من »العملية السلمية« التي تعاني من سكرات الموت والتي يهدد إعلان وفاتها المصالح الأميركية الهائلة بالخطر.
تبدلت الحكومة في فرنسا منتقلة من اليمين إلى اليسار، وتغيّر وزير الخارجية الذي اكتسب من لبنان وفيه مرتبة مميزة، فقفز هيرفيه دي شاريت من موقع الدبلوماسي المحترف إلى مصاف صنّاع السياسة،
على أن النهج الذي باشره الرئيس الفرنسي جاك شيراك لم يتبدل، فقد حاول وما يزال يحاول أن يختط لفرنسا وعبرها ومعها لأوروبا »سياسة مستقلة« عن السياسة الأميركية من دون أن تتصادم معها، أو تتوهّم أنها البديل منها.
وها هو الوزير الجديد أوبير فيدرين، حامل تراث فرنسوا ميتران إلى عهد جاك شيراك، يتحقق مباشرة وعلى الأرض من صحة استنتاجاته »النظرية« التي عبّر عنها كتابة من أن فرنسا، وبرغم ثروتها من الصداقات العربية (والإسرائيلية) لا تملك القدرة ولا هي تستطيع أن تلعب دورا مميزا ومستقلا وقائما بذاته في الصراع العربي الإسرائيلي أو حتى في المجالات الأخرى للسياسات الدولية.
ها هو يأتي لاستكمال جولته بين أطراف الصراع بعدما قسمها »عشوائيا« إلى جهتين »جغرافيتين«: الأولى إسرائيل ومصر بذاتها وبوصفها حاضنة السلطة الفلسطينية المبعثرة بين غزة ورام الله وطائرة لا تكاد تغط حتى تقلع من جديد بين عواصم الدول التي تمنحها شيئاً من »الشرعية«، والثانية لبنان والأردن ليختم بسوريا حيث تمتحن المبادرات فيتأكد نجاح الناجح منها أو يعلن فشل الفاشل.
يغادر دنيس روس مهمته المستحيلة، مؤقتا، فيهبط وزير خارجية فرنسا على المنطقة ليبحث عن منطلق جديد لمبادرة جديدة، داخل المستحيل ذاته مع استمرار »السياسة الكارثية« لبنيامين نتنياهو، والتوصيف لفيدرين نفسه.
يسبق الاعلان الوزير: لا مبادرة فرنسية جديدة في المنطقة، وعلى وجه التحديد لا مبادرة جديدة في مجال البحث في الانسحاب الإسرائيلي من الأرض اللبنانية المحتلة وشروط مثل هذا الانسحاب، وسواء اتخذ من »لبنان أولاً« أو من القرار 425 عنواناً له.
من قبل أن يجيء الوزير، كانت الدولة الفرنسية حريصة على توضيح موقفها لدمشق، فأبلغت بلسان شيراك، مجددا، ثم بلسان رئيس حكومتها الاشتراكي جوسبان، ولأول مرة، وكذلك بلسان وزير خارجيتها فيدرين ان لا جديد في الموقف الإسرائيلي، أو في الموقف الأميركي يستوجب أو يفتح الباب لمبادرة جديدة.
وفي المعلومات فإن الوفد السوري رفيع المستوى والذي ضم الى نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام وزير الخارجية فاروق الشرع، قد عاد بانطباعات بل وبتأكيدات مطمئنة إن لم نقل مريحة.
ومع ان التجربة الشخصية المباشرة للرئيس الفرنسي شيراك مع نتنياهو وحكومته ورجال مخابراته وشرطته، قد تركت في نفسه جرحا عميقاً، وجعلته يطوي فكرة تجديد المحاولة معه، فإن التقييم الذي سمعه الوفد السوري من رئيس الحكومة جوسبان ومن الوزير فيدرين لا يختلف في حدته او في مرارة الخيبة عما عاد به رئيسهما من زيارته الشهيرة بوقائعها للقدس العربية المحتلة.
لم يكن لبنان، قطعاً، البند الأول في المحادثات السورية الفرنسية،
ولقد تقدمت المناورات التركية الاسرائيلية المشتركة تحت الرعاية الاميركية المباشرة وبالمشاركة »الرمزية« للأردن فيها، على كل ما عداها من المسائل والاحداث والتطورات التي تهز المنطقة،
بل لعل التحولات التي شهدتها وتشهدها السياسة الاميركية في منطقة »الشرق الأوسط«، هذه التحولات التي تكاد تتخذ طابع »الهجوم المضاد« لتغطية فشلها سواء في استنقاذ »العملية السلمية«، او كرد عصبي على فشل مؤتمر الدوحة، وكذلك النجاح الباهر لقمة طهران الاسلامية… بل لعل ذلك كله كان على رأس جدول الاعمال في المباحثات السورية الفرنسية، ولعل ذلك سيحكم »البحث« الفرنسي عن مدخل لابتكار او ابتداع او توفير المناخ الصحي لمبادرة جديدة.
في المعلومات ايضا ما يشير الى ان اي مبادرة فرنسية محتملة لن تتركز على لبنان، ولن يكون موضوعها بالتأكيد ما يصدر عن هذا المسؤول الاسرائيلي او ذاك، سواء اتصل الامر بمعبر كفرفالوس او وصل الى حد التلفظ علنا بالقرار 425، حتى وإن أشفع استذكاره بمجموعة من الشروط والضمانات التي تلغي مضمونه الأصلي، وتحوله الى ما يشبه اتفاق الاذعان الشهير: 17 ايار 1983.
فترابط المسارين اللبناني والسوري »حقيقة سياسية« يسلّم بها وينطلق منها الحكم الفرنسي بمختلف أطرافه، وهو للمناسبة واحد موحد في السياسة الخارجية.
بالمقابل فإن الفشل المتكرر للسياسة الاميركية في المنطقة، وذروته في ما يتصل بالعملية السلمية، وبين مكوناته ما يتصل بشروط المواجهة مع التطرف الاسرائيلي، ثم في العلاقات المتوترة مع كل من السعودية ومصر وبعض اقطار الخليج، وصولا الى الاصرار على اختراع المسوغات لحرب جديدة ضد العراق، انتهاءً بما حصل في كل من الدوحة وطهران… كل ذلك يمهّد ويبرر ويهيئ المسرح لمبادرة فرنسية ما، لا تلغي الدور الاميركي (ولا هي تستطيع إلغاءه)، ولا تنقضه، بل هي تكمله او تحاول اعادة تهيئة المسرح او اعادة صياغة ذلك الدور بما يتناسب مع مقتضيات الحركة لتجاوز المأزق الخطير الراهن الذي ينذر بتفجرات أعنف من أن يمكن ضبطها او احتواؤها.
لكنها مبادرة محكومة بالسقف الاميركي الواطئ الذي يظللها.
انها مبادرة تحتاج الى اذن اميركي، وهذا يحتاج الى اجازة اسرائيلية يمنحها (او لا يمنحها) بنيامين نتنياهو شخصيا.
اي انها مبادرة مستحيلة،
وهي مستحيلة على اوروبا مجتمعة، وليس على فرنسا وحدها.
وشجاعة من فرنسا ان تظل تحاول انتزاع الحق بأن تبادر، تعويضا عن الفشل الاميركي، او تجاوزا للتطرف الاسرائيلي، واستنقاذا لما تبقى من العملية السلمية.
لكن النجاح الفرنسي مرهون دائما بحجم الفشل الاميركي واحتدام المأزق الاسرائيلي وصمود الموقف العربي،
تلك هي خلاصة الدرس الذي وفرته حصيلة »عناقيد الغضب« التي بلغت ذروتها بمجزرة قانا، فأسقطت شيمون بيريز وأحرجت حاميه الاميركي، بما وفر للطرف العربي في الصراع (ممثلا بلبنان المقاوم وسوريا) ان تفرض فرنسا شريكا في تفاهم نيسان.
مع ذلك فكثيرا ما حاول الاميركيون التضييق على هذا الشريك المفروض، او دفعه للعب دور رديء يسيء الى سمعة فرنسا وصداقاتها العربية، في لبنان على وجه الخصوص، وخارجه.
اما اسرائيل نتنياهو فتتمنى ان تتخلص من »التفاهم« ومن لجنته وليس فقط من »الرقيب الفرنسي«.
اذن، لا بد من مبادرة فرنسية،
ولكن لا بد من جهد متصل لترشيد هذه المبادرة وأحيانا لانقاذها من خصومها مرات، ومن نفسها في بعض الحالات.
ولعل هذا بين ما يجعل فيدرين يجهر بشكه في ان تنجح فرنسا في ابتداع مبادرة خاصة وفي حمايتها وتأمين استمرارها،
مع ذلك فالعرب مع مثل هذه المبادرة، ولو محدودة، وبحاجة الى حماية دائمة… في انتظار مبادرين آخرين سيتأخر ظهورهم ربما في انتظار »غياب« التطرف الاسرائيلي، او استعادة السياسة الاميركية وعيها في هذه المنطقة الضائعة والمضيعة حتى اشعار آخر.
وخلاصة الكلام: لا مبادرات في غياب موقف عربي موحد او متضامن وعلى الحد الادنى من القوة، صموداً او قدرة على المواجهة.

Exit mobile version