طلال سلمان

مبادرة انقاذ ملكية

… وكان لا بد من مبادرة، عربية بالتحديد، لإخراج جميع الأطراف من المأزق الذي كان يواجهه التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بعد تقرير رئيس لجنة التحقيق الدولية القاضي ديتليف ميليس، والذي اعتمد أساساً لاستصدار قرار مجلس الأمن الدولي 1636..
ولم يكن بين العرب من هو أكثر أهلية للقيام بهذه المبادرة من المملكة العربية السعودية بشخص مليكها عبد الله بن عبد العزيز.
ذلك أن لبنان الضحية لا يريد إلا الحقيقة ومحاسبة المحرضين والمخططين والمنفذين لهذه الجريمة البشعة التي باتت نقطة تحوّل فاصلة في تاريخ هذا البلد الصغير، تتجاوز حياته السياسية الداخلية وتعقيداتها وحساسياتها الطائفية والمذهبية والسلطة القائمة فيه، إلى علاقاته بسوريا والتي شابها توتر عنيف يقارب حدود الحرب…
فأما سوريا فقد رأت في القرار الدولي »مكيدة« تستهدفها في سلامتها الوطنية، وليس في نظامها السياسي فحسب، خصوصاً إذا أُخذت الظروف المحيطة بعين الاعتبار وأولها العراق تحت الاحتلال الأميركي بكل ما نجم عنه بل تسبب فيه من انهيارات قاربت حدود الفتنة في داخله، إلى الاتهامات اليومية الموجهة إلى دمشق بأنها تؤوي »الإرهابيين« وتساعدهم أو تسهل لهم الوصول من حيث أتوا إلى الجبهة المفتوحة في بلاد الرافدين، فضلاً عن الاتهام الدائم الذي توجهه إسرائيل إليها بأنها منطلق العمليات الاستشهادية ضدها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ثم إن لبنان الذي »يريد العدالة لا الانتقام« قد وجد نفسه مهدداً بأن يتحول إلى قاعة محكمة لمحاسبة المسؤولين الأمنيين السوريين المطلوبين للتحقيق كشهود، في حين أن المناخ المحيط بالجريمة وتداعياتها جعلهم مشبوهين… بل لقد استبقت جهات كثيرة مجريات التحقيق فحاكمتهم وأدانتهم جملة، وتجاوزت في إدانتها النظام في دمشق إلى مجمل العلاقات بين البلدين المتكاملين التي تدهورت حتى حافة.. الحرب!
لبنان يريد العدالة، وطريق العدالة يمر بسوريا حكماً، إن لم يكن بدور مباشر لمسؤولين فيها، فأقله بوصفها كانت مسؤولة معنوياً ومادياً عن لبنان كله، سياسياً وأمنياً، وبالتالي فإن من واجبها أن تعرف، أو أن تساعد على معرفة الجناة وتمكين التحقيق من الوصول إلى النهاية المنطقية.
لكن لبنان لا يقبل، فضلاً عن أنه لا يتحمل أن يحاكِم مباشرة، أو أن يتخذ قاعة لمحاكمة مسؤولين سوريين كبار، بغض النظر عن الرأي في ممارساتهم، وأن تحوله الأغراض الدولية إلى منصة للهجوم على النظام السوري الذي يعيش في هذه اللحظة مشاعر المحاصر.
وهكذا برزت عقدة »مكان الاستماع إلى هؤلاء الشهود«، الذين تشير توجهات التحقيق إلى اعتبارهم مشتبهاً بهم وبالتالي إلى احتجازهم في انتظار المحاكمة، المجهولة بعد محكمتها وصلاحياتها ومكانها وحدود مسؤولياتها.
وهي عقدة تلخص القضية برمتها: في مجال الرد أطلق الرئيس بشار الأسد ما يشبه الاستنفار الوطني العام، ودعا السوريين إلى الاستعداد للدفاع عن كرامة سوريا ومصالحها في وجه التهديد بمحاصرتها وفرض العقوبات عليها، ولو عبر بعض المسؤولين الأمنيين فيها، مما يثبت الاتهام الموجه إليها بالاغتيال بكل ما يترتب عليه من نتائج معنوية ومادية فاحشة.
ووجد الكل أنفسهم أمام طريق مسدود، فلجنة التحقيق تصر على مطلبها بأن تستجوب »الشهود السوريين« في مقرها
اللبناني في المونتيفردي، وترفض المقترحات السورية، والوقت ينصرم، وموعد التقرير التالي للقاضي ميليس في 15 كانون الأول يقترب، والإنذارات الأميركية تتوالى، مع مساندة قوية من بريطانيا، وموقف وسطي غير مؤثر لفرنسا.
أما المساعي العربية فقد جاءت بمجملها متأخرة عن الموعد المناسب، ثم إنها لم تكن مؤثرة بالقدر المطلوب، ولعلها لم تكن جدية، أو أنها في رأي دمشق لم تكن نزيهة كفاية، ولم تكن وفق قاعدة »أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً… وذلك برده عن ظلمه«.
وفي الساعة الأخيرة جاءت المبادرة السعودية: بعد اتصالات متوالية بين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس السوري بشار الأسد، نجح الموفد الملكي الأمير بندر بن سلطان، عبر الرئيس الفرنسي جاك شيراك ولقاء مصارحة مع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، وبالاتكاء على موقف روسي »متفهم« ومؤثر، خصوصاً أن روسيا ترأس مجلس الأمن الدولي وهي قد ساهمت مساهمة جدية في التخفيف من حدة القرار 1636… نجح في الوصول إلى حل وسط بالاتفاق على التحقيق مع »الشهود السوريين« في مقر الأمم المتحدة في العاصمة النمساوية فيينا.
وما يتمناه اللبنانيون، وما يحتاجه السوريون، أن يتابع الملك عبد الله بن عبد العزيز، مبادرته التي من شأنها أن تمنع المزيد من الامتهان للعرب جميعاً، فيصار إلى إحاطة التحقيق بالاهتمام العربي الضامن لسلامته من خلال استجابة سوريا لموجباته مع الاطمئنان إلى عدم تسخيره لخدمة مصالح أجنبية تستهدف نظامها فكم بالحري سلامتها الوطنية.
… والمتابعة تكون بحماية لبنان وسوريا معاً من أن تجرفهما التداعيات الناجمة عن الجريمة البشعة التي أودت بالشهيد رفيق الحريري، وبمساعدتهما على التسريع في الوصول إلى الحقيقة، مع استنقاذ العلاقات الأخوية بينهما.
لقد سبق للسعودية أن قامت بأكثر من مبادرة لتأمين الوصول باللبنانيين، وبالتعاون مع السوريين، إلى السلم الأهلي، مما حمى عروبة لبنان ووحدته وعمق ارتباطه بأمته التي لا يجوز ولا يمكن أن تتخلى عنه.
والمملكة مطالبة بأن تتابع مساعيها الحميدة، مشكورة، لإعادة مناخ الطمأنينة إلى اللبنانيين وقد افتقدوها مع سقوط الحريري شهيداً، وإلى السوريين الذين شعروا أن »الدول« تريد توظيف الجريمة ضدهم لأسباب سياسية تتجاوز الشهيد ومكانته لتتصل بمصالحها الحيوية في هذه المنطقة المشرعة الأبواب للتدخل الأجنبي.
إن الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي تصرف منذ اللحظة الأولى وكأنه أهل الشهيد، والمطالب بكشف قتلته وتقديمهم إلى العدالة، يثبت بمبادرته حرصه على سلامة سوريا وكرامة شعبها، وبالتالي فهو أعظم أهلية من »الدول« الأجنبية لتأمين الوصول إلى العدالة لا الانتقام، وبالتالي إلى استنقاذ العلاقة بين البلدين التوأمين من دون إهدار دم الشهيد أو السماح »للدول« باستغلاله لأغراض تخصها، وهي بالتأكيد لا تخدم لبنان ولا سوريا ولا سائر العرب.

Exit mobile version