طلال سلمان

ما بعد قمة

يغمر مصر جميعù شعور بالرضى عن النفس: لقد نجحنا!
وبرغم الإحساس الضمني بأن المشهد »أجمل من أن يكون حقيقيù« إلا أن المصريين يرون أن ما تمّ قد يؤسس لمرحلة جديدة وينهي عصر القتامة واليأس والتمزق الذي كان سائدù حتى انعقاد »قمة لمّ الشمل والإصرار على السلام«.
كان المصريون بحاجة ماسة إلى القمة لكي يستعيدوا ثقتهم بالعرب، ولكي يعود إليهم العرب بالرغبة كما بالاحتياج.
إنه نوع من التوازن النفسي الذي كانت تسعى إليه مصر.
لا تطلّع إلى الزعامة أو القيادة، الآن. أن يعترف العرب بمرجعية شاملة مقرها القاهرة ويقوم الرئيس المصري بأعباء »الأمين العام«، هذا كاف، فأكثر منه ثقيل الوطأة ومكلف وأقل منه مهين.
ومع أن المسؤولين في القاهرة يظهرون حرصù شديدù على توكيد وحدة الموقف بين مرتكزات النظام العربي الثلاثة: مصر سوريا والسعودية، فإنهم سعداء بأن تكون عاصمتهم هي »الناطق الرسمي باسم الأمة«.
غدù، مع وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر، لن أتحدث كوزير خارجية مصر، بل سأبلغه »الموقف العربي«،
ونقول للدبلوماسي الذي يؤكد كفاءته أكثر فأكثر عمرو موسى: ستكون وزير خارجية العرب..
المهم أنه سيسمعني مسبغù عليَّ بالاضطرار صفة من يتحدث باسم كل العرب، ولن يكون عليَّ أن أجتهد، بل سأقرأ له موقفنا الجماعي والإجماعي من ورقة مكتوبة ومفتوحة ونصوصها معلنة.
يضيف على الفور: الأهم أن نتنياهو سيكون عليه أن يتعامل مع ما سيسمعه منا باعتباره موقف العرب جميعù وليس اجتهادù مصريù قد ينقضه هذا أو ذاك من الأطراف العرب.
* * *
مصدر القلق يبقى، بالأساس، فلسطينيù..
تستطيع سوريا أن تصبر على عودة الجولان، ويستطيع اللبنانيون أن يواصلوا صمودهم في انتظار تحرير أرضهم المحتلة في الجنوب، أما الفلسطينيون فوضعهم أبأس من أن يتحمّل ضغط الوقت لفترة طويلة.
ويعترف بعض »القياديين« في السلطة بأنهم ماضون نحو المجهول، وليس في الأفق ما يطمئن أو ما يمكن الارتكاز أو المراهنة عليه لتأخير الكارثة مع النهش اليومي المستمر للأرض بتوسيع المستوطنات القائمة أو الإصرار على بناء المزيد، ومع التضييق المنهجي المتواصل في الرزق ومصادره.
ويفترض المصريون أن فتح باب دمشق، ولو مواربù، أمام سلطة عرفات، من شأنه أن يدخل كمية من الهواء النقي إلى »المعتقل« الفلسطيني، يعزز احتمالات الصمود للضغوط الإسرائيلية التي قد لا تقف عند حد.
بعيدù عن التصريحات الرسمية والخطب المرتجلة في المناسبات لا يخفي بعض القياديين الفلسطينيين تخوفهم من احتمال أن تجد السلطة نفسها مطرودة أو مقتلعة ذات يوم، أو مفلسة تمامù بحيث ينفضّ عنها أهلها ساعين مجددù نحو الملك المنقذ في عمّان!
» لكن علينا أن نتعايش مع هذا الشبح حتى نستطيع طرده من واقعنا، ولا شك بأن قمة القاهرة قد فتحت ثغرة في جدار اليأس..«.
بعض آخر من جماعة السلطة يذهب إلى الأبعد: إذا كان لدى الإسرائيليين متطرفوهم فلدينا نحن أيضù متطرفونا. وإذا ما استمروا في محاصرتنا وإذلالنا وتجويعنا فإن أحدù لن يستطيع إيقاف أو منع عمليات استشهادية جديدة قد لا يقتصر تنظيمها وتنفيذها في الغد على عناصر من »حماس« و»الجهاد الإسلامي«..
ويشترك مسؤولون فلسطينيون مع المصريين في الإشارة إلى ضرورة الانتباه إلى عمق الانقسام داخل إسرائيل باعتباره عنصرù ضاغطù على الحكومة الجديدة من شأنه أن يخفف من تطرفها وإلا فإنه سيحرجها يوميù، ولا سيما عند القرارات الصعبة.
* * *
على أن الكل يعترف بأن أمامنا »فترة زمنية ميتة« هي تلك التي تفصلنا الآن عن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة وتثبيت الرئيس الجديد (القديم؟!) في البيت الأبيض.
وفي تقدير المسؤولين في القاهرة فإن مفعول القمة قابل للحياة بما يغطي هذه الفترة الزمنية الميتة: لن يخرق أحد ما اتفقنا عليه، هذا مؤكد، ومَن يخرج سيُنبذ. لم نأتِ بأحد بالقوة، لقد جاء الجميع مدفوعين بالإحساس بالخطر الداهم. والكل مستفيد من المناخ الصحي الذي أشاعته القمة. إنها قوة لمجموعنا كما لكل منا، فلماذا الخروج على الحد الأدنى الذي قررته؟! المكاسب في الالتزام وليس في خرقه.
إلى أي حد كانت القمة »أميركية« في توقيتها وفي سرعة التلبية الاجماعية ثم في قراراتها التي شكلت الحد الأدنى الذي لا يجوز النزول تحته؟!
لن تسمع جوابù صريحù بالطبع، ولكنك تستطيع أن تستنتج أن الأميركيين ليسوا منزعجين فعلاً من نتائجها، أو أنهم للدقة ليسوا منزعجين كثيرù.
ففي نهاية المطاف لم يفعل العرب في قمتهم »السحرية« إلا التوجه مجددù نحو واشنطن، والتمني على واشنطن أن تبقى على التزامها بما اتفقت معهم عليه، أو بالأحرى بما طلبته منهم، قبل خمس سنوات فقط!
لكن السؤال هو: أين واشنطن اليوم من واشنطن مدريد؟!
برغم كل المداراة لا يملك أي مسؤول عربي إلا تسجيل دهشته لاستجابة واشنطن السريعة والمرتبكة لمطلب نتنياهو بأن توفد إليه كريستوفر وليس دنيس روس..
ويهمس المسؤول الخليجي في أذنك: هذا أفضل، على أي حال، فدنيس روس ليكودي أكثر من نتنياهو. كريستوفر، على الأقل، أميركي، ووزير خارجية أميركا، وليس إسرائيليù أو مجرد نصير لزعيم التطرف الإسرائيلي.
* * *
هل هي بداية مرحلة عقلانية في العمل السياسي العربي؟!
مع الحرص على امتداح الجميع وتجنب الانتقاد، ولو تلميحù لأي مشارك في القمة، فإن القاهرة تبدو الآن أقرب إلى دمشق مما كانت في أي يوم،
وبعد أن كان الوفد السوري قد حزم حقائبه للسفر مساء الأحد، عاد فأرجأ مغادرته القاهرة تلبية لدعوة الرئيس مبارك للرئيس الأسد: إبق معنا الليلة، للراحة، ولكي نفكر معù بهدوء في التداعيات المحتملة.
ويحرصون في القاهرة على التنويه بالموقف العاقل الذي اتخذه معمر القذافي، بغض النظر عن بعض ما جاء في خطابه من طرائف، والذي انتهت أو سحبت معه التحفظات الليبية المعتادة (والمتوقعة دائمù) على مجمل المقررات… ولعل القمة قد أجزلت في مكافأته حين تبنت موقفù قويù يوحي بالاستعداد لخرق الحصار غير المبرّر إذا ما استمر مفروضù عليه، بعد كل ما قدمه ومعه العرب من »تنازلات« لطي ملف لوكربي.
يبقى أن القمة العربية تكتسب قوة استثنائية بالموقف الأوروبي المتميز الذي صدر عشية إعلان مقرراتها، والذي جاء مطابقù لمطالبها، بل وأوضح في بعض فقراته أو في مجمل إيحاءاته.
وعلى جدول أعمال اليوم: كيف ينسق العرب مع الأميركيين، أو إلى حد يستطيعون التنسيق معهم، للحد من أضرار التداعيات في الفترة الزمنية الميتة التي ستمتد حتى ربيع العام المقبل؟!
ويمتلئ المسؤولون المصريون الآن بثقة القادر على مواجهة واشنطن أو مساعدتها، حسب ما تقرّر هي، بالموقف العربي الموحد.
والموعد الأول المفترض لمباشرة هذا »التواطؤ« الاضطراري سيكون مع زيارة الرئيس المصري حسني مبارك لواشنطن، بعد أسابيع، والتي قد تكون آخر لقاء مع كلينتون، أو أول لقاء معه باسم موقف عربي موحد كان مفتقدù وكانت الحاجة ملحة إليه (ربما) حتى في البيت الأبيض ذاته.
طلال سلمان القاهرة

Exit mobile version