طلال سلمان

ما بعد »الفرجة« على ديموقراطية

إذا صحت التوقعات المستندة إلى استطلاعات الرأي الكثيفة والدقيقة، بدليل تقارب نتائجها، وإلى المواقف المعلنة لأصحاب التجربة السياسية العريضة وفي كلا الحزبين المتنافسين، فإن الولايات المتحدة الأميركية على عتبة إنهاء حقبة سوداء في تاريخها كلّفتها فشلاً ذريعاً في الداخل، بداية، ثم في الخارج وعلى امتداد العالم كله…. وبديهي، بالتالي، أن يحتجب »بطل« الفشل المدوي، الرئيس الأميركي جورج .و. بوش طيلة نهار أمس، وليس بدافع الحرص على نزاهة الانتخابات والترفع عن نصرة مرشح حزبه الذي لم يتورع عن التنصل من سياسته، كما هو التقليد فحسب، بل أساساً حتى لا يكون ظهوره بمثابة »رصاصة الرحمة« على مستقبل الحزب الجمهوري جميعاً وليس من زكّاه كخلف له ووريث لتركته الثقيلة.لا يعني هذا الاستنتاج أن الولايات المتحدة الأميركية ستنقلب مع سقوط جون ماكين إلى »دولة اشتراكية« وإلى نصيرة للشعوب المضطهدة والمقهورة، إما باحتلالها عسكرياً كما العراق وأفغانستان، وإما بدعم الدكتاتوريات والأنظمة الفاسدة بل المهترئة، للحفاظ على هيمنتها وتحكّمها وسيطرتها على مصادر الطاقة وأسباب الحياة فيها…مرة أخرى، إنه »الاقتصاد يا غبي« الذي سيكون عنوان الهزيمة التي سيمنى بها حزب جورج بوش الذي شن حربين عسكريتين استعماريتين في أفغانستان والعراق، على بُعد آلاف الأميال عن بلاده، فدمرهما ثم عجز عن الانتصار (؟) بينما كان النهب المنظّم لأسباب حياة مواطنيه يقود أغنى بلاد الأرض إلى كارثة مالية مريعة ستعاني من آثارها لجيل أو جيلين… وبمعزل عمّا أصاب وسيصيب اقتصاديات دول العالم، المتقدم بداية ثم المتخلف من ويلات بينها موت الملايين جوعاً (في آسيا وأفريقيا)، فضلاً عن الكوارث البيئية التي خرّبت قوانين الطبيعة والتي ستبدّل المناخ في الكرة الأرضية جميعاً بكل ما ينجم عن هذا التبدل من آثار مدمرة.إن إدارة جورج بوش ستخرج من البيت الأبيض، بكل أركانها، وقد تركت بلادها مثخنة بالجراح في الداخل، أما في الخارج فهي الدولة المكروهة من معظم شعوب الأرض، بمن في ذلك شعوب دول كانت تعتبر حليفة تاريخية، وأخرى كانت مبهورة بمشهد القوة المطلقة التي تقرّر مصائر الخلق جميعاً..المفارقة جلية: بقدر ما تكره الشعوب الإدارة الأميركية ونزعة الهيمنة الأميركية والاستعلاء الأميركي، فإن هذه الشعوب لا تخفي إعجابها بالمجتمع الأميركي، بحيويته، وقدرته على صهر الوافدين الذين لا تنقطع طوابيرهم الذاهبة إلى »الأرض الجديدة« مساقة بالانبهار وتوفر الفرص لاجتراح معجزات في النجاح السريع والوصول إلى أعلى المناصب، وإلى تحقيق إنجازات باهرة في المجالات العلمية والتقنية الحديثة.وبالتأكيد فإن شعوب الأرض قد تابعت خلال الأيام القليلة الماضية، ثم سهرت الليل الفائت بطوله، »تتفرج« على الانتخابات في بلاد الديموقراطية في الداخل وللداخل… والحرب والهيمنة للخارج ودول الخارج، سواء أكانت من محور الشر أم من الحلفاء التاريخيين!وفي بلادنا فإن الناس قد »تفرجوا« بمتعة على الانتخابات الأميركية، بينما هم غالباً ما »يتفرجون« بحسرة وكمد وغيظ على الانتخابات عندنا، أي في الوطن العربي خصوصاً ـ وضمنه لبنان بديموقراطيته التوافقية ـ ثم في أرجاء العالم الثالث عموماً.عندهم النتائج النهائية قد تتوقف على »صوت انتخابي واحد«، كما حدث في ولاية فلوريدا، قبل ثماني سنوات، وبغض النظر عن الطعون التي قدمت… ذلك أن »النظام«، بأسسه ومنهجه وتوجهاته ثابت ومستقر، أما »الإدارة« فيمكن تغييرها ـ ديموقراطياً ـ ولمصلحة النظام، ومن داخل النظام الذي تجاوز احتمالات التغيير منذ عهد بعيد..أما عندنا فنتفرج على الانتخابات في بلادنا، ونحن نعرف أن النتائج مقررة سلفاً، وبغض النظر عن أعداد المقترعين وبرامج المرشحين المخصصة للاستهلاك… وفي العادة فإن النتائج تأتي محققة لشعار »الحرب في الداخل مقابل التنازل أمام الخارج«، فالخارج هو ولي الأمر وبيده مصائر الأنظمة والحكام. و»الخارج« يحمي ويصون الأنظمة الأكثر استبداداً والأكثر تخلفاً لأنها تطيعه في كل ما يطلب، من دون اعتراض![ [ [لقد سهر الناس في لبنان كما في مختلف أرجاء العالم (لا سيما الثالث) مع استعراض ممتع، ومباراة في ضروب الإثارة في الألوان والشعارات التي قد تنقصها الفصاحة أو الخبرة السياسية، بل وقد تتبدى مضحكة، لكنها تؤثر في الناخبين (وهم سذج ومحليون في غالبيتهم الساحقة، ولا يدعون لحظة أن القرار في أيديهم)..كان الاستعراض يذكّر بالنمط الجديد الذي يروي فيه العروسان سيرتهما الذاتية منذ الولادة وحتى مصادفة التلاقي والاستلطاف إلى انفجار الحب الذي يستولد ليلة الغناء والدبكة والفرح الجماعي؟على أن أهم ما في هذا الاستعراض أنه يأتي وقد عرف كل مواطن ـ ناخب كل شيء عن المرشح الذي سيصير رئيساً (أو نائبا): أصله وفصله، حتى جد الجد، نجاحاته ومباذله، عشيقاته ونزواته، أصدقاءه ورفاق صباه ومدرّسيه ومنافسيه في لعبة البيسبول، وسجله العدلي وهل فيه مخالفات سير، مثلاً.لم نلمح، طوال الاستعراض الذي شمل طوابير الناخبين، عسكرياً واحداً، أو شرطياً واحداً، حتى في عز الزحام… كأن الآتين للإدلاء بأصواتهم يحاولون قراءة اللائحة الطويلة التي تتضمن إضافة إلى اسمي المرشحين للرئاسة، أسماء المرشحين لعضوية مجلس الشيوخ في ولايتهم (من أصل ثلث أعضائه) والمرشحين لعضوية مجلس النواب في ولايتهم (من أصل 435 نائباً) ثم حاكم الولاية، وشاغلي وظائف أخرى تتم بالانتخاب.كان هناك الدينيون وأتباع المذاهب المختلفة (داخل المسيحية) والمنتمون إلى ديانات أخرى (اليهودية، الإسلام، والبوذية إلخ)..مشى الجميع إلى مراكز الاقتراع. أدلوا بأصواتهم. ثم خرجوا بهدوء وهم لا يعرفون من سيفوز. عادوا إلى بيوتهم فارتاحوا.كل العالم كان »موجوداً« في هذه الانتخابات، إلا العرب بقضاياهم التي تنزف دماءهم، من العراق إلى فلسطين.الطريف أن المسؤولين الرسميين في هذين البلدين تحت الاحتلال، ومعهم العديد من أقرانهم العرب، لم يتورعوا عن إعلان تأييدهم للإدارة التي يتوجه شعبها لإسقاطها والتخلص من الظل الأسود لحكمها الذي تسبب في انهيار مالي ـ اقتصادي سيكون عليه أن يعمل طويلاً طويلاً للتخلص من آثاره المدمرة داخل أميركا… فضلاً عن الحروب التي تورطت فيها، بعيداً عن أرضها، ولا تعرف كيف تنهيها وتوقف النزف.أما ما أصاب العالم خارج الولايات المتحدة من خسائر وأضرار بحجم الكارثة فيدخل ـ عربياً ـ في باب النصيب ـ ومع النصيب لا اعتراض… أليس هو بعض ما كتب لنا؟!كائناً من كان الفائز لن تتناقص أثقال الهموم العربية، وأخطرها الاحتلال، أميركياً كان أم إسرائيلياً، والهيمنة هي أميركية أساساً، طالما أن المسؤولين العرب لم يغيّروا ولا يبدو أنهم سيغيّرون قريباً ما بنفوسهم، وسيبقون على وفائهم للصديق الكبير… حتى لو ثبت لهم شرعاً أنه السبب في كارثتهم المالية، فضلاً عن أنه أخطر الأسباب ـ بعدهم ـ في أوضاعهم المزرية والمهينة لكرامة شعوبهم!وباراك أوباما، على وجه التحديد، معني بإنقاذ بلاده، وربما على حسابهم، وليس بإنقاذهم!

Exit mobile version