طلال سلمان

ما بعد الصلاة وكلينتون!

صار »يوم القدس« مهدداً بالتحوّل إلى طقس احتفالي موسمي في ظل التفريط اليومي للسلطة الفلسطينية بمقوّمات »القضية« ومرتكزاتها الأصلية، وخمود الانتفاضة الشعبية في الداخل، إما بدافع الخوف من تهمة »الإرهاب«، وإما لتناقص »الأرض« والإمكانات التي تستطيع أن تقف عليها فتواجه »العدو« مباشرة وتنهكه مادياً وتفضحه سياسياً وعلى مستوى الكون.
وفي أيام الجمعة من شهر رمضان المبارك يتبدّى الفلسطينيون وكأنهم قد فقدوا الفرصة في الذود عن حقوقهم في أرضهم وتأكيد وجودهم الفاعل، فلم يتبق لهم إلا الصلاة في أفياء المسجد الأقصى ومن حوله.
ومع التقدير للصلاة كفعل إيمان بالله وبالأرض، وكموقف سياسي يؤكد الصمود ويستدعي الغافلين إليه، إلا أن الصلاة وحدها لن تعيد القدس الشريف، ولن تتكفّل بهدم المستوطنات التي باتت تطوّقها من جهاتها الأربع وتحاصر مَن تبقّى من أهلها فيها وتحصرهم بين الإسرائيليين المهاجمين بالمال إضافة إلى سلاح السلطة المحتلة، وبين المتخلّين عن أرضهم سواء بالبيع المباشر أم مقابل سلطة وهمية يتناقص مداها ومؤداها كل ساعة، بل كل لحظة.
لن تعود القدس بالصلاة وحدها، مهما بلغ حشد المؤمنين المتوافدين إليها كل يوم جمعة، عبر الأسوار والحواجز الإسرائيلية… بل ان هذا الحشد العظيم سيبقى قوة معطّلة عن الفعل حتى إشعار آخر، ولن تقرِّبه الصلاة من هدفه السامي.
كذلك لن تعود القدس بتفاوض المستسلِم الذي لا قرار لضعفه مع المتطرّف الذي لا حدّ لتفوّقه وهوسه بالقوة وإحساسه بالقدرة على ممارسة هيمنته المطلقة ليس على فلسطين وحدها (ومن ضمنها القدس) بل على الأمة جمعاء.
وحتى من قبل تفجّر الفضائح الجنسية في وجه كلينتون، ومن قبل أن يهتز عرشه الامبراطوري ويُساق الى قفص الاتهام أمام سلطة قضائية لا حدّ لاستقلالها، ولخطورة دورها المسلَّم به في حماية الدولة والمجتمع، فلقد كان مؤكداً أن رحلة ياسر عرفات إلى واشنطن، بالتزامن مع وجود بنيامين نتنياهو فيها، لن تتجاوز حدود تطييب الخاطر ومطالبته بمزيد من التنازلات لعله يحظى بشيء من هذا المتجبّر الذي لا يفهم إلا لغة القوة، والذي لا يملك البيت الأبيض ما يكفي من القدرة »للضغط« عليه و»إقناعه« بغير ما قرّره بنفسه ولنفسه من موقعه على رأس التطرف الإسرائيلي.
في أي حال فإن الفضائح الجنسية لكلينتون قد أصابت برذاذها عرفات نفسه، وكان بين »التشنيعات« أو »النكات« التي أطلقتها صحيفة مؤثرة مثل »واشنطن بوست« واحدة تقول ما مفاده: »بعد الاجتماع مع عرفات، قال كلينتون: كان اجتماعنا مهماً.. لقد أجرينا محادثات معمّقة، لكننا لم نمارس الجنس..«.
… ولربما كان قد اختلف سياق النكتة وربما ختامها لو أن »الثاني« فيها كان نتنياهو بدلاً من عرفات!
لا يتصل فشل رئيس السلطة في غزة بالوضع الحرج الذي يعيشه كلينتون، والذي قد ينتهي بإسقاطه (طوعاً أو كرهاً) عن سدة الحكم في الدولة العظمى الوحيدة في الكون، بعدما ينجز المحقق الخاص »كينيث ستار« عمله، وهو الذي بات يتمتع الآن بسلطات مطلقة حتى لقد شبّهه البعض بالبابا… كلمة منه ويقضى الأمر، وينفتح »سحاب« كلينتون عن »الدليل الجرمي« الذي يقبع في سرواله (على حد تعبير »واشنطن بوست« أيضاً).
فالرحلة البائسة فاشلة من قبل أن تبدأ، ولم يكن لها في السياسة ما يبرّرها، اللهم إلا إذا قُصد منها إضفاء جو من المجاملة والتكريم الشخصي الذي قد يغطي أو يموّه التنازلات الجديدة المطلوبة من عرفات، إضافة الى استلام تنازله الأخير عن المواد ذات المعنى في الميثاق الوطني الفلسطيني وهي المواد 6 و7 و8 و9 و10 و15 و19 و20 و21 و22 و23 و30، ومعها ما حذف من مقاطع من المواد الأخرى: الأولى و2 و3 و4 و5 و11 و12 و13 و14 و16 و17 و18 و25 و26 و27 و29!!
المضحك المبكي ان عرفات يدفع سلفاً، من تاريخ شعبه ومن مكوّنات قضيته، لرئيس أميركي مهدَّد بالخلع في أية لحظة، لا يملك أن يقدم له بالمقابل شيئاً، هذا إذا قصد أو أراد، علماً بأنه لم يقدم له من قبل وهو في ذروة قوته شيئاً يعوّضه بعض الخسائر الفادحة التي تكبّدها ودفعها من جوهر قضيته ومن الحقوق التاريخية لشعبه الفلسطيني في أرضه.
لقد أطلقت »واشنطن بوست« على فضيحة كلينتون الجديدة تعبير »سحَّاب غيت«، لكن خسائر الرئيس الأميركي قد تقتصر على منصبه وسيحسب ذلك نصراً للقضاء الأميركي، ونصراً للاعلام الأميركي ونصراً لما يُسمى »قيم المجتمع الأميركي« المحافظ بطبيعته، والحساس إزاء العدالة داخله، المتغاضي، بل المؤيِّد لكل الارتكابات والمظالم التي تمارسها حكومته في الخارج.
أما فضائح السلطة في غزة فتُظهر العكس تماماً: تذهب الأرض الفلسطينية، وتذهب احتمالات الدولة الفلسطينية، وتذهب أحلام فلسطينيي الشتات واللاجئين بحق العودة، وتذهب القدس، وتبقى القيادة التي ألغت القضاء وقمعت الإعلام ودمّرت المجتمع، متذرعة بالتماثل مع سائر الأنظمة العربية، من جهة، وباسترضاء إسرائيل من جهة أخرى لتقنعها بضرورة تنفيذ الاتفاقات التي »كشت« بين »أوسلو« و»الخليل« فصارت مجرد مسودة لقرار تحويل »السلطة« الى مجرد أداة أمنية جديدة في يد إسرائيل لقمع الفلسطينيين وإبعادهم عن أهداف نضالهم المشرف والمكلف والذي صنع بعض أمجاد التاريخ العربي.
الوجه الآخر للمأساة المهزلة ان سقوط كلينتون سينتهي فوراً بتنصيب نائبه آل غور، اما »سقوط« عرفات فقد يعني في جملة ما يعنيه إسقاط كل ما تبقّى من فلسطين والقدس الشريف وصولاً الى كاريكاتور الحكم الذاتي.
لكل هذا، فإن الصلاة على أهميتها وخطورة المحتشدين في أفياء المسجد الأقصى لن تحفظ القدس العربية، ناهيك بإعادتها إلى.. فلسطين، ولا هي ستحفظ ما تبقّى من فلسطين التي يمارس نتنياهو في أرضها لعبة »أليسار« في قرطاج مقلوبة، فيجعل من المستوطنات جلد الثور الذي يتمدّد باستمرار ليقتلع المزيد من المدن والقرى والمزارع الفلسطينية.
ومع التقدير لكل المساهمين في إحياء »يوم القدس«، في القدس ذاتها ثم في داخل فلسطين كما في مختلف بقاع الأرض العربية والإسلامية، وإيران على وجه التحديد، فإن هذا الاحتفال يظل ناقصاً ما لم يتكامل مع فعل في مستوى الانتفاضة، إن لم نقل »الثورة« داخل فلسطين؛ مع توفر حاضنة عربية إسلامية ومسيحية لها في الخارج.
ولا يسمح هامش الاختلاف بين كلينتون ونائبه آل غور، وبينهما معاً من جهة وبين نتنياهو من جهة أخرى، بتوقع تفجر »الثورة« أو الانتفاضة في الفاصل بين الخلع والتنصيب!
لقد انتهى زمان الرهان على الخارج، وعلى »الراعي الأميركي« بشكل خاص، وكذلك على هامش الاختلاف بين حكم »الاعتدال« وحكم التطرف في إسرائيل، ولا بد من وسيلة أخرى.
لا بد أن »يفعل« هذا الحشد الذي يتجمّع في القدس، كل يوم جمعة، ما يستطيعه الى جانب الصلاة وبعدها،
ولا بد أن يساعده إخوانه في الخارج بغير الدعاء، أو اللوم أو اتهامه بالتخاذل والتعب والاستقالة من الثورة.

Exit mobile version