طلال سلمان

ما بعد الزيارة..

عاد حافظ الأسد من زيارته الاستثنائية لفرنسا بنجاح ممتاز: كان الاعداد جيداً والمواضيع محددة تماماً والمصالح معلنة من دون مبالغة او اوهام »عاطفية«، وكان الحوار متكافئاً الى حد كبير، وهكذا أخذ كل من الطرف الآخر اقصى ما يستطيع ان يعطيه، بالتبادل، فعلاً، فجاءت النتائج منسقة مع المقدمات والتمهيدات التي استغرقت الوقت الكافي للتفاهم على الأساسيات كما على التفاصيل، وعلى المضمون كما على الشكل، خصوصاً وانه هنا لا ينفصل عن المضمون.
كان جاك شيراك الفرنسي اوروبيا الى حد كبير وهو يتحاور ويتمايز ويتفق مع حافظ الأسد السوري والعربي الى حد كبير.
اذن فهي مرحلة جديدة في العلاقات الاوروبية العربية،
فالموقف الذي يعبر عنه حافظ الأسد يمثل نقطة الذروة في السياسة العربية تجاه مختلف المسائل المطروحة، سواء ما يتصل بالصراع العربي الاسرائيلي، واستطراداً بما بات يطلق عليه »العملية السلمية«، او ما يبلور ويحدد آفاق التعاون العربي الاوروبي والذي اتخذ في السنوات الاخيرة صيغا متعددة بينها »الشراكة المتوسطية« توسما للوصول الى ما يعبر عنه حاليا »بالشراكة الاستراتيجية«، وهي كانت بين ابرز عناوين الزيارة الحدث.
ولعلها المرة الاولى تكتسب فيها تلك التعابير الفضفاضة والغامضة مضموناً واضحاً او قريباً من الوضوح، سيشما وقد باتت »جدول اعمال« يشمل مجالات الاقتصاد كافة وفيها الصناعة والزراعة والتجارة والتبادل الثقافي، لارساء العلاقات السياسية الجديدة على قواعد متينة من المصالح المشتركة والتفهم المتبادل لاحتياجات كل طرف وتطلعاته في هذه اللحظة تحديداً وضمن التوازنات الدولية السائدة.
كذلك لعلها المرة الاولى تتحدث فيها فرنسا، بيمينها ويسارها، لغة واحدة في اخطر القضايا العربية، ولقد كان التقاطع واضحاً بين التيارين اللذين »يتساكنان« في مقار السلطة ويتعاونان ويتكاملان (ولا يتناقضان) في مركز القرار، وبالتالي في القرار الفرنسي.
ومن باب المقارنة وتنشيط الذاكرة، ليس إلا، يمكن الاشارة الى حجم التباعد الذي كان يفصل في زيارة العام 1976، بين الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس الفرنسي آنذاك فاليري جيسكار ديستان (وكان جاك شيراك حينئذ رئيساً للحكومة).
كان الاختلاف يكاد يكون شاملاً: من لبنان الى الفلسطينيين، ومن اسرائيل الى مشاريع التسوية المطروحة، وفي السياسة كما في الثقافة، وفي المصالح كما في العواطف…
ومن »طرائف« تلك الرحلة ان ديستان قد سأل الأسد عن »اللغة التي يتفاهم بها مع اللبنانيين«، مفترضاً ان لكل شعب في البلدين المتكاملين لغة مختلفة، وانهما يحتاجان مثلهما معه الى مترجم محلف!
اما اليوم فإن فرنسا شيراك جوسبان تتحدث مع حافظ الأسد عن لبنان وهي تدرك تماماً مدى ما يربط بين »الشعب الواحد في دولتين«، وقد أعاد الأسد التذكير (وفي باريس التي كان لها دور حاسم فيهما وبينهما ذات يوم) بأنه أول رئيس سوري يعترف بالدولة اللبنانية، وكان من البديهي بالتالي اعتبار الاعلان عن زيارته الرسمية المتوقعة مع نهاية الصيف وكأنه تثبيت لهذا الاعتراف السياسي أكثر منه سبقاً صحافياً.
انقضى عصر الجنرال غورو، الذي استخدم لبنان »مقراً وممراً« لاستعمار سوريا… فانتقل بقوات احتلاله منه اليها وكانت »ميسلون«.
الآن، تكاد تكون »ميسلون« مدخل »المعبر الاجباري« للقادم الى لبنان، وتكاد تكون دمشق البوابة الطبيعية الى المناطق والمصالح التي ظلت خارج حدود »الاجتياح« الأميركي الشامل.
وعلى نقطة افتراق المصالح الأوروبية الأميركية، ومن باب أولى العربية الأميركية، تقع إسرائيل، التي بدأت نبتة او مستنبتة أوروبية، وانتهت لأن تكون »قاعدة خلفية« او »شريكاً بالحصة« او »حليفاً استراتيجياً« للمصالح الأميركية الهائلة في الأرض العربية.
من هنا فمن الضروري انتظار مزيد من النتائج الطيبة، عربياً وأوروبياً، لزيارة حافظ الأسد لفرنسا شيراك جوسبان، خصوصاً وهي تقع على التخم تماماً بين موت »العملية السلمية« الأميركية المنشأ، على يد التطرف الإسرائيلي، وبذريعة العجز الفاضح في البيت الأبيض، وبين محاولة تجديدها بصيغة أكثر فعالية.
دون ان يعني هذا طبعاً ان أوروبا تتبنى بالضرورة الموقف الفرنسي حرفياً، وانها حتى لو تبنته قادرة على تعويض الغياب او العجز الأميركي فكيف بالاعتراض، وهو مرشح لأن يبرز ويصير جدياً وقابلاً للتحول الى »فيتو« كلما اقترب الدور الأوروبي من التبلور في صيغ عملية من شأنها ان تؤثر فعلياً على إسرائيل التي تعيش الآن لحظة الزهو المطلق والاحساس بالهيمنة على القرار الكوني في ظل أقصى التطرف فيها.
انتهت »الزيارة«.. أما النتائج فمرشحة لأن تكون »حدث« الأيام المقبلة.

Exit mobile version