طلال سلمان

مانديلا والقاهر الأبيض مجددا

على امتداد جيلين أو ثلاثة حفظ المواطن العربي اسم نلسون مانديلا في قلبه كصفحة من كتاب مقدس نُقشت آياته في الزمن الثوري الجميل،
حتى وهو خلف قضبان سجنه الذي امتد دهراً بقي نلسون مانديلا وعداً صادقاً بأن الليل لا بد سينتهي وأن الحرية لا بد ستنتصر وأن الإنسان، في أفريقيا خاصة، كما في كل أرض، سيتمكن أخيراً من أن يمسك مصيره فوق أرضه بيديه.
وعندما انحطمت أسوار السجن واستعاد مانديلا حريته، ومن ثم بلاده، شعر كل عربي أن هذا النصر الباهر سيعوضه بعض ما فقد، من أرضه وروحه، في المواجهات غير المتكافئة التي فرضت عليه لتدمغه من بعد بصورة المهزوم.
كان تحرّر جنوب أفريقيا، بقيادة نلسون مانديلا، عيداً لكل الشعوب، أما للعرب فكانت تلك فرصة لتجديد الأمل والإرادة واستشعار القدرة على إسقاط حكم المستوطن الأجنبي المسلح بلونه وغربيته… المتقدمة.
سقط اللون الأبيض الممتاز فامتصته القارة السوداء لتنصر إنسانها.
سقط الاستيطان الذي يقوم على اغتصاب الأرض وسحق أهلها، بحروب الإبادة أو بالإذلال اليومي وامتهان إنسانيتهم فكيف بحقوقهم الطبيعية.
وشعر العرب أن هذا النصر يقرّبهم خطوة من فلسطين التي فرض عليها هي أيضاً مواجهة غير متكافئة مع الاستيطان الأجنبي المستقوي بغربيته وعنصريته، ومعها الآن الأساطير التوراتية.
… خصوصاً وأن الحكم الاستيطاني الغربي الأبيض في جنوب أفريقيا فتح هذه البلاد سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، أمام مثيله الذي قام بقوة الحراب فوق أرض فلسطين…
من جنوب أفريقيا المستعمرة اتخذت إسرائيل موطئ قدم لكي تتسلل إلى أفريقيا كلها،
وعبر ثروة الماس الخرافية في جنوب أفريقيا جنت إسرائيل ثروات خرافية من تصنيع الماس واحتكار تجارته،
وفي جنوب أفريقيا وبتسهيلات استثنائية من حكمها »الأبيض« دفع ثمنها الأفارقة من أرواحهم، أجرت إسرائيل بعدما زوّدتها فرنسا المهزومة في »مستوطنتها« الجزائرية بالمفاعل الذري معظم تجاربها النووية،
وبالاشتراك مع الحكم الأبيض في جنوب أفريقيا طوّرت إسرائيل صناعات السلاح فيها، لتقاتل بها »رفاق سلاح« الأفارقة في سعيهم إلى التحرر واستعادة إنسانيتهم وحقوقهم في أرضهم.
* * *
اليوم تسعى الولايات المتحدة الأميركية، ومعها إسرائيل، إلى إعادة جنوب أفريقيا، التي استعادت اسمها (بريتوريا) فلم تبق مجرد جهة جغرافية، إلى الأسر والموت في غياهب سجن أفظع من ذلك الذي أمضى فيه رئيسها نلسون مانديلا ربع قرن أو يزيد من عمره.
ممنوع على بريتوريا أن تبيع بعض الأنظمة الألكترونية من صناعتها إلى سوريا.
والآمر بالمنع هي الولايات المتحدة التي تضمن تفوق إسرائيل العسكري على مجموع الدول العربية والتي تحمي لها تفردها بامتلاك السلاح النووي، والتي تدعمها في ممارسة سياسة الاستيطان المسلح والتمييز العنصري ضد شعب فلسطين، وتعزز التطرف الحاكم فيها والرافض لأي تسوية مع المغتصبة ارضهم والمهدورة حقوقهم وكرامتهم كبشر،
ان واشنطن، او روما الجديدة تعتبر العالم مساحة لنفوذها، وهي تصنف سكانه نوعين: رعايا خاضعين لها ومسلمين بهيمنتها، او خارجين على القانون.
ليس لواشنطن اعداء، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره ومعه الشيوعية، لا تمنح واشنطن شرف عدواتها لأية دولة او جهة، من يرفض قانونها خارج على القانون ولا بد من تأديبه.
لا دول في نظر واشنطن، تمارس سيادتها على ارضها، وتحاول شراء السلاح لحماية انسانها من خطر الاجتياح او الاستيطان المسلح.
انها تكاد تفرض على الدول ان تسلك سلوك المنظمات السرية: اذا ارادت سلاحا تذهب الى السوق السوداء، وتشتريه خلسة وتنقله بوسائل مخابراتية، فإذا ما انكشف امرها تعرضت للتأديب.
* * *
تتوالى الانذارات الاميركية والاسرائيلية على بلاد نلسون مانديلا وعلى حكومته لأنها عقدت صفقة تجارية تبيع بموجبها بعض منتجاتها من دولة مهددة في سلامة اهلها، مثل سوريا.
وتهدد واشنطن مانديلا بأنه اذا ما اتم الصفقة فإن رد فعلها سيكون قاسيا جدا!
والانذارات والتهديدات ترتكز الى منطق مقلوب تماما »فبيع السلاح الى بلد يعارض عملية السلام مثل سوريا لا يمكن ان يساعد السلام«.. كأنما بنيامين نتنياهو هو الداعية الاول للسلام في هذه المنطقة!
ان هذه الانذارات والتهديدات انما تلغي اول ما تلغي تاريخ مانديلا ونضاله الطويل والمرير، وتلغي ايضا كل ما كافح وتحمل من اجله السجن دهرا: استقلال بلاده وتحررها من الاستيطان الاجنبي الابيض والتمييز العنصري.
ان واشنطن، ومعها تل أبيب، تعيدان بذلك بريتوريا كلها الى السجن الأبيض كالموت.
اسرائيل اهم من حريات الشعوب جميعا، وأهم من حرية التجارة والاقتصاد الحر.
لإسرائيل وحدها الحرية، وعلى الشعوب الاستسلام لهذا القرار الاميركي!
… والعرب، الذين ما زالوا يحفظون مانديلا في قلوبهم، لا يتوقعون منه موقفا مغايرا لتاريخه.. خصوصا وان صموده، الآن، ليس خدمة يقدمها لهم، بل هو توكيد او تتويج للمعركة التي اعطاها عمره من اجل بريتوريا حرة.
ولا يطلب العرب من بريتوريا الا ان تنتصر لنفسها، وبعد ذلك يكون الحديث في امر السلاح.

Exit mobile version