طلال سلمان

ماساة جزائرية فضيحة عربية

المأساة في الجزائر، أما الفضيحة فعربية بامتياز،
وبمعزل عن هوية المسؤول عن المأساة في الجزائر، فإن الفضيحة تجتاح بدويها أرجاء »الوطن العربي الكبير« مشرقا ومغربا، وتبلغ ذروة تجلياتها في هذا العجز العربي الشامل عن »التدخل«، ولو للتخفيف من الشعور الشخصي بالمهانة والانسحاق ألما والتهرب من »المسؤولية القومية« عن محاولة رسم تصور ما أو إطار لحل ما يوقف المذبحة أو يمهد لوقفها ذات يوم.
لكأن الكل خائف من أن يمتد خيط الدم داخل هذا الكيان العربي الهش فيهدم »دولة« التي يندر بينها من يعيش حالة اكتمال، خصوصا وأن »السلطة« أقوى فيها جميعا من »الدولة« أو حتى من »الوطن« بشعبه والمؤسسات.
أو لكأن الكل يخاف من أن يتهم بالمشاركة في المسؤولية عما يحدث في الجزائر، فينأى بنفسه عن محاكمة علاقته كسلطة بالإسلام، مفترضا ان الاقتراب من بؤرة الدم قد يبعث مشكلته النائمة أو المخدرة أو المرجأ النظر فيها لعل الأيام تحلها فيرتاح.
إن الحكم الجزائري يرفض تدخل الآخرين، عرباً وغير عرب،
والأطراف التي تصارعه فتصرع الأهلين شيوخا ونساء وأطفالاً أكثر مما تصرع من »رجاله«، ترفض هي الأخرى التدخل الخارجي، عربيا كان أم غير عربي.
كذلك فإن الأنظمة العربية عموما تهرب من »التدخل« ليس احتراما لارادة أطراف الصراع في الجزائر، ووفق النظرية الجزائرية الشهيرة »نرضى لهم ما يرتضونه لأنفسهم«، ولا لأنها لا تملك الرغبة في دخول التاريخ بوقف المذبحة، بل لأنها لا تستشعر في نفسها الأهلية لمثل هذا الدور التاريخي الخطير.
إن العرب يعيشون بلا مرجعية سياسية عامة يسلم الجميع بأهليتها. وشرعيتها العملية، لا على شكل مؤسسة ولا عبر قائد أو قيادة لا ينازعها أحد حقها في أن تنظر في أمور الأمة جمعاء وفي أن تقرر باسم الجميع حلاً لأية مشكلة قبل انفجارها: من الحرب العراقية الإيرانية إلى مسألة الصحراء المغربية، إلى غزوة صدام الكويت وصولا الى الاتفاقات المنفردة مع إسرائيل وضياع فلسطين في غياهب اتفاق أوسلو وملحقاته المنسية.
لا مرجعية سياسية، ولا مرجعية دينية، ولا مرجعية فكرية..
إن الدم الجزائري يفضح الجميع، داخل »أرض المليون شهيد« وخارجها: يفضح الأنظمة والسياسات والمصالح، كما يفضح بؤس حال »الرعية« وانعدام تأثيرها على القرار، يفضح »الدول« التي ليست دولا، كما يفضح الحركات السياسية ذات الشعار الإسلامي (والتي تولت بدورها إنهاء دور أو تحجيم الحركات السياسية ذات الشعار القومي أو التقدمي)… فهذه الحركات ذات الشعار الاسلامي لم تنجح مرة واحدة في تقديم نفسها كبديل أرقى وأكثر عدالة وأعظم وعيا واستشرافا للمستقبل من الأنظمة التي تقاتلها أو تعترض على نقص »إسلاميتها«.
ان »السلطة« تقدم نفسها بديلا من »الدولة« فتلغيها في الغالب الأعم لتستحضر نفسها وتبقى في »حكم القوة«،
والحركات ذات الشعار الاسلامي تقدم نفسها بديلا من الشعب، فتلغيه أو تحجر عليه أو تتخذ منه رهائن أو تُعمل فيه الفؤوس والسكاكين إذا هو لم يخرج على حاكمه و»دولته« ليجيء الى »دولتها« الموعودة التي لا يعرف أحد كيف ستكون وأين.
من هنا فالفضيحة تشمل الحاكمين والمحكومين على السواء، الذين يقولون بعلمانية مأخوذة عن الغرب ومفروضة غالبا بقوة السلاح فيفصلون الدين عن الدولة حيث لا دولة، لكي يحتكروا السلطة على حساب الدين والدنيا معا، والذين يرون ان الاسلام هو الحل ثم يعجزون عن مواجهة العصر فيهربون الى الماضي يريدون تنصيبه باباً الى المستقبل في عالم يشهد تحولات مذهلة بفضل الاكتشافات العلمية وضروب التطور التي أثبتت ان العقل الإنساني جدير بالاحترام أكثر من الموروث السلفي المنقول من عصور التخلف والقهر الاستعماري.
مَن هي السلطة العربية التي تستطيع محاسبة النظام الجزائري؟!
ان الأنظمة العربية، عموما ومع استثناءات معدودة، تبدو أعجز من أن تستطيع محاسبة النظام الجزائري على النقص في ديموقراطيته، أو على تجاوزه الارادة الشعبية وصولا الى تزوير الانتخابات من القاعدة الى القمة.
لو كانت الأنظمة العربية بمجملها متسامحة مقابل الدموية في الجزائر، ولو كانت قد صالحت رعيتها أو اعترفت بها وأقرت بحقها في المشاركة في إدارة شؤون بلادها لأمكن ان تكون لها كلمة ورأي ودور او »مسعى حميد«!
مَن مِن بين هذه الانظمة التي يحكم معظمها باسم الاسلام، سواء على شكل خليفة أمير للمؤمنين، أم على شكل انه »ولي الأمر« و»القائم بالأمر« حفظا لدين الله وباسمه، من منهم انجز مصالحة حقيقية مع الاسلام بوصفه دين الناس ومصدر قيمهم ومفاهيمهم وتقاليدهم واخلاقياتهم ومجمل ما يؤمنون به؟!.
من اقصى المشرق الى اقصى المغرب ثمة مشكلة متفجرة بين الحاكم والاسلام تدفع ثمنها »الرعية«: فالحاكم يصور نفسه على انه »ولي الأمر«، الخليفة، أمير المؤمنين، و»المرجع الصالح«، لكنه ينكر على رعيته اسلامها (الذي من دونه لا يستقيم له الحق بالحكم؟!).!
ولأن النظام ظل دائما أقوى من الدولة والسلطان أقوى من النظام فقد صار أي اعتراض على ارادته وعلى مفهومه الخاص للاسلام ينذر او يفجر حرباً أهلية بين اسلام الحاكم والمحكوم المسلم بالوراثة وبالاكتساب، بالانتماء الواعي أم بالتسليم القدري للبديهية التاريخية.
ومعظم الأنظمة العربية يهرب من »التدخل« في الجزائر ليس مراعاة للنظام القائم فيها، وإنما خشية على ادعاءاته هو من الافتضاح: فهو يحتكر الدين والدنيا بشخصه، هو الاسلام وهو العلمانية معاً،
والمعضلة لا تخص العرب وحدهم، بل ان المسلمين عموماً يعيشون اسراها: كيف تكون العلاقة بين الدولة والاسلام في هذا القرن؟! هل من مجال لدولة دينية وكيف وعلى أية قواعد؟!
وفي لحظات يبدو وكأن الناس محكومون بخيار محدد: اما الدولة واما الاسلام. فلكي يكونوا مسلمين كما تنشئهم سلطتهم (ومرجعياتهم الدينية) لا بد ان يسلموا لولي الأمر الذي يلغي بسلطته المطلقة »الدولة« و»الشعب«، ولكي تقوم دولة عصرية تزهر فيها الديموقراطية وحقوق الانسان لا بد ان اسقاط الخليفة ولي الأمر الذي يختصر بشخصه المؤسسات جميعا ويغدو المصدر الوحيد للحقوق والنعم.
ان المذبحة في الجزائر تطرح قضايا أكبر بكثير من أطراف الصراع، وهي في جانب منها تتصل بموقع الاسلام في الدولة وبالعلاقة بينهما عشية القرن الحادي والعشرين، فالموروث لا يقدم حلاً او مشروع حل، والاجتهادات لما تتوصل الى صيغة تحقق المصالحة التاريخية الموعودة.. والعجز فتح الباب لحل يعتمد السيف لا العقل!
ومن دون رغبة في المقارنة فإن الوجه الآخر لمأساة الجزائر يتبدى في تركيا حيث يشطب جيش العلمانية الديموقراطية الاتاتوركية اكبر حزب سياسي في البلاد واحد الأعظم شعبية في العالم (4 ملايين عضو، 7 ملايين صوت، اكثر من 150 نائبا في البرلمان) بتهمة وحيدة: انه يحمل طيف دعوة الى الاسلام،
واذا كانت تركيا العلمانية تقاتل ماضيها فتكاد تقتل مستقبلها، فإن الجزائر الضائعة بين علمانية مدعاة وبين اسلام مقموع، تكاد تخسر اضافة الى ماضيها المشرف حاضرها ومستقبلها المفتوح الآن على مخاطر ابسطها الحرب الأهلية.
لقد كان الاسلام في اساس الثورة التي اعادت الجزائر الى الوجود، كدولة وكيان ودور،
والمقتلة الدائرة في الجزائر الآن تهدد بإلغاء الدولة والكيان والدور، والاخطر: بإنجاب اسلام غير الاسلام الذي جاء به النبي العربي والذي وجد فيه العالم طريقا الى العدالة وكرامة الانسان والمساواة واحقاق الحق والتقدم نحو مستقبل أفضل خارج الجاهلية؟!
هل نحن محكومون بجاهلية تزور الاسلام على اهله، او علمانية تقتل المسلمين بذريعة انهم غير مؤهلين لدخول العصر؟!
إن مأساة الجزائر فضيحة للعقل العربي، أيضا.

Exit mobile version