طلال سلمان

ليلى عسيران العائدة بأصدقاء العمر

استقبلت خبر الدعوة وكأنها بشرى: حفل في القصر الجمهوري لتكريم ليلى عسيران.
تستحق أديبتنا الكبيرة مثل هذه اللفتة التي يكرم الحكم فيها ذاته.
ما اكثر ما يختزن اسم ليلى عسيران من أصدقاء العمر، إن قلبها ينافس بيتها في اتساعه للمبدعين شعراً ونثراً، نحتاً ورسماً، رواية ومسرحاً ،اضافة إلى شيء من السياسة خارج التهريج.
في اللقاء الاول كان ثالثنا غسان كنفاني، وكانت الرعاية لبهجت عثمان.
في اللقاء الثاني كان ثالثنا أحمد بهاء الدين.
في لقاءات اخرى عديدة اتسعت دار امين الحافظ وليلاه لحشد من المبشرين بالغد الافضل والساعين إلى تحقيقه ولو من قلب المعتقلات التي زجهم فيها الخائفون من ذلك الغد!
أما اللقاءات الحميمة فكانت مع روايات ليلى عسيران، ومع التماعاتها المتميزة في بعض مقالاتها التي كانت ترصد فيها التحولات داخل اليقين او القلق خارق.
وكانت ليلى تشع املاً وثقة بقدرات الامة.
جاءت الانتكاسات سراعاً.
ولفترة بدونا وكأننا غرقنا في ليل دامس بعدما انطفأ مصدر النور في القاهرة.
لكن ليلى ونحن معها، حاولنا ان نستعيض بقبس المقاومة علَّه يهدينا سواء الطريق إلى فجر جديد.
على ان الغلط أضاع المقاومة والفجر، وعمت العتمة.
قبل شهور، كان هم الغلط ونتائجه قد أصبح أكبر مما يطيق قلب ليلى عسيران، فتهاوت وغرقت في السكينة المطلقة تصارع وسلاحها بقية من إيمان بالانسان العربي وقدرته على استيلاد الصبح.
جبارة كانت ليلى الرقيقة حتى شفافية الحزن، والقوية كضحكة طفل وليد.
صمدت حتى هزمت الغيبوبة، بل إنها في قلب الغياب حافظت على صحو قلمها، فاذا هي تكتب بعض أجمل سطور العمر.
وأعترف انني حين اتصلت بليلى عسيران لأنعى إليها عظيمنا احمد بهاء الدين، كنت أبحث عمن أستظل بصداقته، نستطيع معاً تحمل الحزن وتخطيه.
وكتبت ليلى عسيران معاتبة رفيق المعاناة الذي قرر في لحظة تخلٍٍ أن يغادر بغير وداع.
ليلى عسيران العائدة إلينا من قلب الموت أعظم ما فيها قلبها المتعب.
لكن كثيراً من الذين يعطون الحياة معناها يسكنون في قلب ليلى، ولعلهم هم الذين نبهوها إلى أن غيابها خيانة وسقوط في مقر العجز، فقاومت حتى انتصرت وانتصرنا بها.
كلنا نكرَّم فيكِ يا ليلانا.
كلنا ومعنا غسان كنفاني وصلاح جاهين واحمد بهاء الدين وسائر المنتظرين.
***
اخطر ما في الدعوة ان بعض الدولة يزعم لنفسه شرف القراءة.
المجد للقراء!
حوار فوق الشوك
همهم فلم تفهم، وهمَّ بأن يقول فضاع منه النطق، فاكتفى بأن يفكر:
»تهمّ عيناك بالنطق، تطل منهما الرغبة متسللة فتطفئين نارها بيديك ثم تصرخين من وجع الحريق وقد كان مهيأً له أن يُنضج متعتك المشتهاة.
تغلين يدك حتى لا تمتد بحنانها إلى الرأس المثقلة بشجنك الأخرس.
تغرقين نفسك في الصمت حتى اذا خفتِ منه فجّرتِه في وجه من حولك فأدمت شظاياه وجوههم وكادت تطفئ العيون، بينما صراخ الخطأ يغطي على الانفجار ويضاعف الالم.
ماذا لو توقفتِ عن متعة الانتحار«.
***
انتظرتْ نومه حتى تنظره، ولما اطمأنت إلى انه في غفوة تأخذه بعيداً عن دنياها، غضت بصرها وقال من دون ان تقول:
»إلى متى تستمر في الهرب من وجهك؟
»يدور الكلام حول ذاته حتى يفرغ من المعنى تماماً، فيثقل الهواء وتكاد لا تجد منه ما يكفي للتنفس.
»يتطاول الشك. ينفخ بألسنة النار في وجوهنا فتتشوه حتى لا يعرف أحدنا الآخر، ويكاد ينكر ذاته.
»أولست أنت أنت؟!
»اولست أنا أنا؟!
»تبدلت؟! انت من غيرني تغيرت فغيرتني. تقول لي: خذني إليك؟ ولكني قد اضعت يدي!، تقول لي: تعالي، اذاً، إليّ؟! وكيف أتبين طريقي إليك ولست أراك؟! عيناي مفتوحتان، ولكن على الفراغ منذ أن غادرتهما، وذهبت معك جدوى العمر فتركته ينسرب من بين أناملي بغير أسى«.
***
سمعهما العجوز من داخل صمته الذي يغل لسانه ويطلق لأذنيه المدى، مفتوحاً على الهمس الحميم، فقال لهما من دون ان يسمعاه او يعيا وجوده:
»أيها الطفلان الشقيان، أنتما تشوهان نعمة الحياة.
»لا العين ترمش، ولا الحدقة تنبض بمتعة الاكتشاف، والشعر يشتهي اليد التي كفت منذ زمن عن اتخاذه مهجعاً لها.
»يتمطى الجفاف فيسد الباب والنوافذ ويمد ظله الثقيل فوق مساحة التنفس.
»ينبت الشوك على صفحة الوجه. ينبت في الجدران وفي الطرق وفوق المخدة، وينطرح بيادر فوق فراغ السرير فيجرِّحه وتُعوِل في جنباته آهات الحنين المكتوم.
»أيا جارتا لو تعلمين بحالي!
»ولكنك تعلمين… ويعلم. ولكنكما تعلمان!
»هذا حالكما حين فقدتما الرضا.
»المبالغة في طلب الادنى هي هي المبالغة في طلب الأقصى. والتزاهد ليس الزهد.
»أيها الطفلان الشقيان: ليس العذر في الغير. الخطأ في الداخل، وأحزان الغير لا تأتي بالفرح.
»في الداخل ينابيع الفرح. اطلقوها لتجرف الشوك وتنظف الهواء ومسرى النبض.
تجتمعان في كلمة صغيرة وتفترقان في الثرثرة. اخرسا اذاً، واصغيا إلى صوت الصمت«.
ورق وعصافير وغيم
تتناثر الألوان مع الأوراق المجعدة المنطوية على ذاتها المتهادية وهي تسقط بجلال فوق الأرض.
ستحفظ اللون الآن، ستخزنه في الأرض لتستولد من بعد ربيعها الثاني.
تتعرى الشجرة، فتتبدى وكأنها انقلبت رأسا على عقب: جذورها مندفعة في فضاء رمادي، وريعانها متمدد بساطاً مزركشاً يعطي التراب اللون والصوت ويبعث في خموده الأزلي نبض الحياة.
يمرق الغيم بالرسائل متعجلاً،
يسبق الغيم العصافير الباحثة عن دثار.
تتغلغل فيه، تدغدغه، ثم تخترقه متعابثة فلا يحتجزها قطنه الوهمي فيبكي مدراراً، وتهب الرسائل على العناوين الخطأ.
***
يرسم الهواء ملامحك على وجه الغيم، ثم تجيء العصافير إليه لتصلي، وحين ترتعش الأوراق في رحلتها الأخيرة لا تنطق إلا اسمك.

 

رحلة قمرية

على امتداد السهل المنبسط كالرجاء كان القرص الفضي الموشح بالذهب ومسحة من الشحن يتهادى بوقار يتناسب مع مصدر الضياء مضفياً على الأمكنة والأحياء والأشياء بهاء رائقاً.
… ولمحتكِ تمرقين عبره، فتغمزين لي قبل أن تتدثري بظلك.
استرقت الجبال وتوارت جهامتها خلف غلالة من الضباب المندى.
وكان طيفك ينساب فوقها للاطمئنان إلى أنها قد خلعت جبروتها النهاري ونامت في أحضان حب موعود.
تبدت المصابيح المنتثرة على الطريق، او المطلة عبر نوافذ البيوت الغارقة في متعة الحلم، مثل عيون القطط، يتضاءل ذوب انوارها في القبة التي تبدو الآن صنيعته، فهو يعطيها المدى والمعنى اذ يرتضيها إطاراً لطلعته.
في قلب الصمت الشاحب ووسط أخيلة العشاق الذي عبروا الضياء او سكنوا فيه، او نقشوا أسماءهم شعراً على حوافي كوفيته، انطلق البدر يهمس لنا شجنه الحميم:
مرة واحدة كل شهر يمكن للقمر ان ينظر نفسه في المرآة!
متى نظرها انكسرت بالنقص، فدار يجمع قطعها سعياً منهكاً نحو اكتمال يرتحل مع بلوغه الذروة بغير وداع.
… لكنه محكوم بالموعد التالي مع اللقاء الرحيل،
وأنت لا تفارقين حدقة العين إلا الى الحدقة الاخرى!
السعي إلى المبهم
هل وصلت متأخرة، أم أن لديك بقية من وقت؟
يجيء حين يجيء، لا الساعة تحدد له المواعيد، ولا المواعيد تحرفه عن غايته…
أنا آتية من البعيد. تعبت من السعي إلى المبهم الذي لا ينجلي. كلما قدرت أنني دانيته غذ السير فجرجرني إلى حيث أشتهي وأخاف.
اما أنا فقد تعبت من ركاكة الوضوح، وأخسر نفسي في العادية…
اين اذاً نلتقي؟!
في قلب الخوف.
أموت خوفاً.
الصوت
يأتيني صوتك بارداً كمذيع نشرة الأخبار في محطة مفلسة.
وأراني اتقمص، بالعدوى، دور المذيع بالإشارة للصم والبكم.
وتصبح فواصل الصمت أبلغ ما نقول.
متى تدخلين صوتك؟!
متى أدخل في صوتك؟!
مثل نجمتين
يقرب الموعد الوعد، وتقرِّبان الحلم من الأمل.
تأخذنا اللهفة الى الأمس، فيطفئها التشوق إلى الغد.
وها هو »العيد« يجيء في الغيبة فيشع الحضور وتتهاوى السنين.
ويزهر قمر ثالث في حنايا الكهولة الموعودة بربيع جديد.

 

الحب السيّار

قال العاشق الخليوي للمعشوق الخليوي: الحب شاع، الآن أحدثك من على الرصيف.
رد المعشوق الخليوي: والناس من حولك، ولربما يسمعك بعضهم… أخفض صوتك ولا تجعلني فضيحة!
قال العاشق الخليوي: أحب هذا الجهاز. إنه يجعلك معي دائماً. أهتف لك من أي مكان، من الجبل، من البحر، من السرير، من الحمام، من المكتب، من الطريق، من خلف الباب«.
رد المعشوق الخليوي: أما أنا فلا أحبه. إنه يهتك الأسرار. يلغي ما هو حميم. يجعلك تحس دائماً أنك تحت المراقبة. إنه يغتال اللهفة. كيف يستطيع محب يحاصر حبيبه في كل الأمكنة والأزمنة أن يقول له: هزني الشوق فهتفت لك!
قال العاشق الخليوي: ها قد هزني الشوق فهتفت.
قال المعشوق الخليوي: أخاف أن يكون الشوق قد بات مادة للمباهاة، وأخشى ان تصدم بعض المارة وأنت تتقافر بينهم لتحافظ على »الإرسال«…
قال العاشق الخليوي: لا يهمني الناس… أنتِ كل الناس!
قال العاشق الخليوي: أراهن أن عدداً منهم يتابعك الآن ويضحك منك…
انطلق أزيز حاد من السماعة، فأبعدها المعشوق للحظة عن أذنه، ثم عاد يطمئن إلى »الوضع«: ألو، هل انت بخير؟! ألو، هل تسمعني؟! ألو، ألو، ألو…
بعد لحظات، جاء صوت العاشق الخليوي متقطعاً: سأطلبك بعد قليل، مع السلامة الآن، (لحظة يا أخ، سنتفاهم بهدوء، أنا المسؤول وسأتحمل الأضرار)… مع السلامة، لا علاقة للخليوي، الحق على الشرطي! دولة فوضى وناس همج!
توت، توت، توت… وصمت الخليوي!

 

الصنم والمنطق

تجمّد، فجأة، مثل صنم.
ظلت يده ممدودة الى الذين تقدموا يصافحونه مرحبين، وظلت تلك الابتسامة الباهتة مجمدة فوق شفتيه، وظل لسانه يتحرك فتصدر عنه همهمة لا هو يقصد بها معنى ولا سامعها يفترض فيها غير ارتباك الفرح بالحفاوة… لكن عينيه كانتا مثبتين عليها.
من اين انبثقت زهرة الياسمين هذه في دجى الليل، فأشعت بهاء وذكريات معطرة؟!
حف به موكب الطيب والنشوة حتى اقتحمه.
اختلجت كفها في يده، وغشى الدمع فرح العينين، وسحبته همستها الوانية بعيدا عن الجمع والقته فوق غمامة بيضاء تسري متهادية مع اطراف الحلم حتى لا تهزه فتبعثره بددا.
سمع نفسه يقول: زمان!
وسمعت صوتها يقول: لم تتغير!
لم يتغير؟! بالتأكيد لا! فماذا عنها؟! وهل تطمئنه، ام تطمئن عليه؟! هل تعيد وصل ما انقطع، ام تلومه على انه لم يعترف بالواقع الجديد؟! هل تنفخ في جمر الايام التي كانت، ام هي تهيل رمادا ليصفو لها زمانها الجديد؟!
لكن الفرح في العينين يشع في قلب اللحظة ليصلها بمنبته العريق، وارتعاشة اليدين وقد احتضنتا الآن كفه، والحرج الذي تكاد تتعثر به وهي تقدمه الى من لا يعرف، وحفيف الثوب الابيض المطرز بأنفاسها ونبض الخافق المعذب مرتين…
جاءت الصدمة الثانية بأسرع مما تتوقع:
ألا تعرف عمو؟! لقد تربيت على يديه اكثر مما في بيت ابي!
صافح غريمه« وهو يجاهد لينتزع نفسه من قلب الصدمة:
تشرفنا، لطالما حدثتني عنك! انها تكنّ لك تقديرا خاصا جعلني أتشوّق الى لقائك.
خرج صوته بغير ارادته: أتمنى ان تكون تربيتي صالحة.
والنعم!
جاءته الكلمة كاللسعة. لم يسكت رجلها على الظلم، وهو البادئ، وقد ناله منه ما يستحق.
حاول الابتعاد عنها، فعجزت قدماه عن سحبه، وادى ارتباكه بأن افتعل حوارا اجوف مع زميل دراسة قديم.. ثم استغرق في اللعبة فأخذ يتأمل نفسه عبره: الصلعة لامعة كمرآة، والاسنان الصناعية تطل بحقيقتها القاسية قضما لبعض الحروف والمعاني، والتعب من الوقوف الطويل لا يعادله الا التعب من المشي، والوزن الزائد يضخّم التهدّل الذي اصاب الجسد،
هل هو مثله؟!
لماذا الاستهجان، اذاً، وتعريض الذات الى امتحان بائس ومحكوم بنتيجة واضحة ومنطقية؟
منطقية؟! وهل يتبقى معها منطق؟!
هي من اغراه برمي المنطق في سلة المهملات، قبل سنين، تعود اليوم لتطالبه باحترام المنطق؟!
واين هو بين »المنطقين«؟!
أين هي؟!
أين هما؟!
تسلل بهدوء الى الخارج، تلاحقه اصداء صوت المغني الرديء الاداء.
تنفّس ملء رئتيه، وجلس تحت شجرة يحاول ان يستعيد تفاصيل الصفحة التي انطوت… ولكنه افتقد المنطق، فقام يمشي لعله يعثر عليه في بقعة منوّرة بين عتمتين!

 

آخر الكلام

الصوت
يأتيني صوتك باردا كمذيع نشرة الاخبار في محطة مفلسة.
واراني اتقمص، بالعدوى، دور المذيع بالاشارة للصم والبكم.
وتصبح فواصل الصمت ابلغ ما نقول.
متى تدخلين صوتك؟!
متى أدخل في صوتك؟!
مثل نجمتين
يقرب الموعد الوعد، وتقرِّبان الحلم من الأمل.
تأخذنا اللهفة الى الأمس، فيطفئها التشوق الى الغد.
وها هو »العيد« يجيء في الغيبة فيشع الحضور وتتهاوى السنين.
ويزهر قمر ثالث في حنايا الكهولة الموعودة بربيع جديد.

Exit mobile version