طلال سلمان

ليس بطلك يا بني! إنه الفضيحة!

لم تنجح مظاهر الفرح المستولد على عجل ب»عودة الابن الضال« سالماً في إخفاء المرارة المكثفة التي كانت تنعقد فضاءً قاتماً لذلك البيت الفقير الأثاث، المزدحم بأهله حتى من قبل ان يتدفق عليه المهنئون بسلامة العائد من قلب الموت… الاميركي.
كان الفتى يجلس مكسوراً، يرد على عبارات التهنئة بسلامة العودة بتمتمات تتحرك بها شفتاه آلياً، لا هو معني بما تعنيه ولا السامع يصغي إليها ليتبين دلالاتها.
»مجلس العزاء« المفتوح بامتداد صحراء الهزيمة يلتهم بنشيجه المكتوم حسرات الفتيان العائدين يجرجرون أثقال الخيبة من الميدان الذي أسقطته قيادته من قبل ان يبلغوه.
لم يكن لدى الفتى رغبة في النقاش. كان يستمع فحسب لثرثرات الزوار فلا يسمع منها إلا كلمات مقطعة عن سقوط المدن، وأسئلة تتوالد بلا انقطاع: أين اختفى القائد الذي طمس العراق بتماثيله وصوره مقاتلاً بالبندقية، بالرشاش، بالسيف (استعادة هزلية لصلاح الدين الايوبي)؟! كيف تبخر الحرس الجمهوري؟ في اي بئر سقط الجيش؟! والمليون مناضل في الحزب… هل انشقت الأرض فابتلعتهم؟! والصواريخ التي لم يرها الناس إلا وهي تدمَّر محولة قواعدها الى خرائب؟! أين وأين وأين… ألف أين وأكثر!
بعد يوم طويل من التهنئة بالسلامة الشخصية في ظل الكارثة القومية، انفجر الفتى في نوبة بكاء متصلة استنزفت دمعه وأعصابه وما كان تبقى من وعيه بالاشياء من حوله، ثم نام، مرجئاً الكلام إلى الغد.
في الصباح طلب إلى أمه ان تصحبه إلى مقام قريب لولي صالح لا يعرف أحد له نسباً واضحاَ، ولكن أهالي القرية كانوا يقصدونه كلما ضاعت لهم عنزة او نعجة او فقد أحدهم مبلغاً من المال فخاف ان يَتهِم بسرقته من يشتبه به بغير دليل.
كانت الأم مزهوة بأن فتاها قد اختارها وحدها لتسمع اعترافه.
كانت تحضنه بقلبها وتطمئنه بعينيها انها تفهم سبب اندفاعه إلى التطوع للدفاع عن العراق، وإنها مثله حزينة لأن الحرب قد انتهت قبل انخراطه في المعركة، وانها مثله ايضا (؟!) ممتلئة بفرح عودته سالماً بدل الموت المجاني في ارض كان أهلها ممنوعين من تحمل المسؤولية عنها.
قالت الأم بعفوية: الحمد لله على اي حال… ولا تخف على العراق. أهله الآن فيه!
التفت الفتى ينظرها في عينيها مبهوراً، ثم رفع بصره إلى السماء وتدفق يروي ويستعيد مشاهداته محاولاً ان يقرأ دلالاتها بوعي الآن… كان كمن يحدث نفسه، كمن يعترف، كمن يحاول التعرف إلى مكامن الخطأ. وسمعته أمه يقول، وقد نسي تقريباً وجودها:
كنا مجموعة، لا نعرف من العراق إلا صورة »البطل«، أما اميركا فنعرف انها العدو، عدو العرب والمسلمين. عدونا في فلسطين. هي اسرائيل الكبرى. كنا مشوقين إلى ملاقاة هذا العدو الآتي من آخر الأرض لاحتلال بلادنا. ألا يكفي جورج بوش انه يدعم اسرائيل فيجعلها اقوى من كل العرب. سنواجهه اذن في العراق في ما يشبه النجدة لفلسطين. طبعا ما كنا لنذهب الى العراق لو اننا نستطيع الوصول الى فلسطين. عبرنا الحدود بسهولة. كان هناك من ينتظرنا مرحباً. ركبنا الباصات ونحن نهزج بالأناشيد التي حولها الهجر الى محفوظات نستعيدها في فترات متباعدة، اذا ما سنحت لنا فرصة التظاهر، او في معرض تأمين الحشد في المعارك الانتخابية في كلياتنا في الجامعة… مع اننا كنا نشعر بأن الكلمات أثقل من ان تتحملها مناسبات التحديات او النكايات ذات الطابع الطائفي المموه بالشعارات السياسية. وعلى ايقاعات أغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة وزياد الرحباني وصلنا بغداد. كان ثمة شباب آخرون في باصات اخرى يطلقون ابتهالات وأدعية، وكان ثمة شاب رخيم الصوت يسحبنا الى آفاق علوية وهو ينشد او يتلو ادعية بالنصر.
صمت الفتى، وطال صمته، واقتربت منه أمه تحضنه وتبكي نيابة عنه، وقد عز عليه الدمع، فانتفض: ارجوك، لا تبكي! ها أنذا معك هنا!
همست الأم من خلال دمعها: إنما ابكي العراق. ابكي بلادنا! أمكتوب عليّ أنا التي زغردت صبية لخروج جيوش الاستعمار من بلادنا، ان اموت طي احزاني وجيوش الاستعمار تعود الى بلادنا وثمة من يصفق لها وينثر عليها الورد ويرى فيها »محرر الشعب من الطاغية واستبداده«… هل كنا في حالة من العمى حين اعتبرناه بطلنا؟!
انتفض الفتى وقد استعاد وعيه، وتدفق يقول بلهجة محترقة بالغضب والخيبة:
ليس بطلنا، إنه الفضيحة! لم اذهب من أجله، ذهبت الى العراق لا إليه. ولكنني لم اجد العراق! ليس البطل، ليس البطل، ليس البطل! انه الفضيحة! انه الصورة المزورة للبطل! لقد سرق ثياب صلاح الدين فتنكر بها. إنه الكابوس لا الحلم!
هدأ الفتى قليلاً، ثم استأنف يروي الآن مشاهداته او ما علق بذاكرته منها… قال:
وصلنا بغداد فلم نشهد فيها ما نستذكره من صور الاجتياح الاسرائيلي وحصار بيروت: لا حواجز، لا مدافع مضادة في الشوارع، لا قواعد لإطلاق الصواريخ، لا دبابات عند النقاط الاستراتيجية. كانت الغارات تتوالى على مدار الساعة، وكان الضحايا من المدنيين يتساقطون في كل مكان، وخصوصاً في الاحياء الشعبية المكتظة. وكان النقص فاضحاً في وسائل الاسعاف. لعلنا نحن الخبراء في عمليات القتال هجوماً ودفاعاً والانقاذ والتموين قد فجعنا بالتراخي وعدم الانضباط ومواصلة الحياة اليومية وكأن الحرب ما تزال بعيدة: في أم قصر والبصرة والزبير والناصرية والنجف وكربلاء… في المستشفيات، كان الوضع رديئاً جداً، وكان الاطباء والممرضات يشكون نقص التجهيز. سألنا عن دورنا، عن مواقعنا، عن مهماتنا، فأخذونا الى معسكر، وجاءنا ضابط برتبة رائد فقسمنا مجموعات صغيرة، وأخضعنا لدورة تدريب سريعة، ثم حدد لنا بطريقة مرتجلة مكامننا لكي نصطاد جند الاحتلال اذا ما وصلوا الى بغداد، مضيفاً بلهجة قائده: وهم لن يصلوها، بل سيتهاوون كما هولاكو عند أسوارها!
صمت قليلاً قبل ان ينفجر باكياً بحرقة، ثم أكمل روايته باقتضاب: في الصباح الثالث فوجئنا بالدبابات الاميركية تمرق أمام عيوننا في تلك الناحية من بغداد المطلة على مطار صدام الدولي. كان سلاحنا فردياً، وذخيرتنا محدودة، ولم تكن لنا قيادة، ولم نعرف كيف نتصرف وإلى أين نذهب من هنا، فضلاً عن أننا بلا تموين… وحين قصدنا بعض البيوت للاحتماء واجهنا رعب السكان الذين كانوا بدورهم يبحثون عن مأوى آمن، ولم يكونوا على استعداد للترحيب بمن سيستدرج إليهم الصواريخ والدبابات الاميركية. هم معذورون. كانوا مثلنا: متروكين للريح!
كانت الأم مكومة إلى جانبه، تمسح دمعها بلا صوت، تمسد شعره بيدها المعروقة ثم تنحدر بها الى رقبته، وحين هدأ قليلاً وغرق في بركة فجيعته، فوجئ بها تقول:
ليس بطلك، يا حبيبي. ليس بطلنا. إنه الصورة المجسمة لأمنياتك المكسورة. صدقني إنني لم أحبه في اي يوم. لم اصدقه قط. كل ما فعله كان خطأ. حارب الإسلام في إيران، وحارب العروبة في الكويت، وحارب الوطنية في العراق. هم فقراء، يا بني، أليس كذلك؟ اظنهم افقر منا! هكذا اخبرني بعض من ذهب إلى العتبات المقدسة في النجف وكربلاء!
قال كمن انتبه إلى أمور نسيها خلال سرده الطويل: لن تصدقي كم هم فقراء! في الذهاب كنا ضحية عمى الحماسة، أما في العودة التي تعددت خلالها محطات التلطي فقد رأينا القرى الغارقة في فقرها البشع. أقواس النصر في كل مكان وليس من منتصرين. المعوزون يملأون أرض السواد.
تشجعت الأم فأكملت تعلن رأيها المحبوس في صدرها من زمن بعيد:
ليس بطلك يا حبيبي. ليس صلاح الدين، وليس جمال عبد الناصر. لا اظنه كان يحب أحداً غير نفسه، قاتلُ أصهاره، هذا، ميتّم أحفاده، هاجرُ زوجته! القاتل ليس بطلاً حتى لو صار عدد قتلاه بالملايين. عبد الناصر كان يحب الناس. كان يبتسم فينقل إلينا عدوى مواجهة الصعب بالابتسام. خسر الحرب، لكنه صمد للهزيمة وعاد الى الميدان بعد أيام. عبد الناصر كان عربياً. ساعد الجزائر ضد الاستعمار، وشعب اليمن ضد الإمام، وشعب لبنان ضد أميركا، وسوريا ضد تركيا، والفقراء ضد الاقطاع، أعطاهم الارض وفرص العمل. أعطاهم مع الخبز الكرامة.
أكمل الفتى كمن يتحدث في نومه: البطل الدجال! القاتل! المزوّر! قصوره في كل مكان وشعاره اشتراكي! الكذاب… حديثه عن العروبة والوحدة والأمة العربية المجيدة وهو قد قسم شعبه الواحد إلى قوميات وأعراق وطوائف ومذاهب مقتتلة!
قالت الأم: بطلك العراق لا صدام، يا حبيبي. بطلنا العراق. قم بنا نعُد إلى البيت. المعركة طويلة يا بني، طويلة بامتداد عمرك يا حبيبي، وهذا قدرك. ليس المهم فقط ان تعرف عدوك، المهم ايضاً ان تعرف قيادتك فتثق بها. المهم ألا تكون وحدك. يد الله مع الجماعة يا بني… والعراق سيعرف طريقه. سأدعو للعراقيين في كل صلاة، ولسوف ينصر الله هذا الشعب المظلوم!
في طريق العودة، فوجئت الأم بوليدها يترنم بأغنية حب عراقية حزينة فهمت من كلماتها: »تكسر جناحي ليش، يا بابا، يا الماردتني… بين القصب والمي، يا بابا، بطة وصدتني«!

 

رسالة حب لا تنتظر ردا

كلما سمعت او لفظت او كتبت كلمة العراق أراكِ قد انطويت على ذاتكِ في »قافها« كدمعة مجمدة، كآه خرساء، كالحاء المفتقدة باءها، كذراع علي عباس المبتورة وعينه التي تقاوم البكاء ووجهه الذي يحتبس الألم ليرفعه من الاشفاق على الطفولة الى التقدير لشجاعة الرجال.
عباءتك مفرودة على ارض السواد غلالة حزن، وفي عينيك تحتضنين الحمام الذي اغتالت بنادق الكاوبوي هديله…
يرطن الجندي بلغته الاعجمية: هيا، انصرفي من هنا…
ولكنك »هنا«. ولكنك الارض والنهر والجماد، الجبل والثلج والنخيل، الرمل والماء والهواء، »القمرة« ونجمة الصبح والشمس ولو كانت سعيراً.
ماذا يفعل »ابن الهناك« المستريب في جدائلك، الخائف من حذائك، والذي يأخذه الرعب، اذا ما هبت عاصفة من العجاج فغطت بالاشباح مدى البصر.
اعرف عنوانك بقلبي، ويكتب قلمي كلماتك: أحبك بقدر ما احب العراق!
سلمتِ أيتها الجميلة كحلم، الممتدة في شراييني كامتداد الرافدين في ارض العراق.

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ليس الحب ملجأ من الهزيمة. في المحن يصير وطني حبيبي، فأسكنه لأستمد منه روح الصمود، ولأمسح حزنه بشغاف قلبي، ولأمده بفرح القدرة على المواجهة. ما أبهى الحبيب وطناً يكبر على الهزيمة! لحبيبي الآن وجه أرضي.

Exit mobile version