طلال سلمان

ليست مجرد حرب أميركية-إسرائيلية

إذن، فالمشكلة إسرائيلية بعنوان فلسطيني ومضمون عربي وفي إطار دولي يتسع للاتحاد الأوروبي وروسيا واليابان، أما الحل ففي واشنطن وليس إلا فيها.
المشهد مسرحي تماماً: بوقار أمبراطوري تجلّله عاطفة الأبوة فتغلِّب »التأديب« على الانتقام، يمد بيل كلينتون يده، الآن، إلى بنيامين نتنياهو ليخرجه من »النفق« الذي دخله متحدياً ثم لم يعد يعرف كيف يخرج منه سليماً أو بجراح غير قاتلة… سياسياً.
والرئيس الأميركي في عرضه هذا ليس »فاعل خير«، ولا هو قد اقتنع أخيراً بعدالة القضية الفلسطينية، بل إنه يرد على »تحية« نتنياهو بأحسن منها: إنه يكاد يقول له إنه وحده القادر على إغراقه والقادر على إنقاذه… وإنه سيغفر ل»بيبي« الحرب التي شنّها عليه خلال الانتخابات الإسرائيلية ثم بعدها، بشرط أن يعود إلى »بيت الطاعة« الأميركي وينضبط مع مقتضيات السياسة الأميركية التي لها وحدها القرار في المنطقة، وإسرائيل من ضمنها وليست خارجها ولا هي في مدار ذاتي منفصل.
كذلك فإن الرئيس الأميركي يعرض على نتنياهو أن »يبيع« تنازله الاضطراري في واشنطن ومنها ولحساب مشروعها الخاص ب»السلام في الشرق الأوسط«، وليس للفلسطيني الذي كان مجرّد »تابع« أو »ملحق« فرفعه الدم المسفوح بامتداد أرضه إلى مستوى »الشريك«، وإن كانت حصته ما تزال أقل مما يستحق، ثم أنها »رمزية« و»معنوية« بحيث لا يمكن بعد صرفها في كيان سياسي محدّد الملامح أو مشروع دولة مستقلة عاصمتها بعض القدس.
لكأن بيل كلينتون يحاول إنقاذ »حليفه اللدود« من »تطرفه« الذي يعجز، الآن، عن الاندفاع فيه إلى غاياته القصوى، ويتربص به السقوط إن هو خرج منه وخرج على »جمهوره« المتعصّب الذي رفعه بأصواته المزمجرة إلى سدة الزعامة في إسرائيل.
لكن جبهة الحروب التي فتحها بنيامين نتنياهو تكاد تكون باتساع الدنيا كلها،
لقد وصل إلى الحكم متعجلاً الانتقام للتطرّف الإسرائيلي ورمزه سلفه إسحق شامير، الذي أسقطه مؤتمر مدريد، الأميركي الفكرة والإعداد والضمانات والرعاية،
كذلك فهو كان يتعجّل الخروج من الإنجاز الأول لخصمه الانتخابي الإسرائيلي، الثنائي إسحق رابين شيمون بيريز، متمثلاً باتفاق أوسلو الذي أخذ من الفلسطينيين أكثر مما أعطاهم لكنه اعترف بهم كطرف مستقل نسبياً يحظى برعاية دولية، أوروبية أساساً وتحت المظلة الأميركية دائماً،
والأهم أنه بادر فوراً إلى تحطيم مشروع الإنجاز الأهم والأخطر لخصمه الإسرائيلي: موافقة حكومة بيريز على الانسحاب من هضبة الجولان السورية وحتى حدود الرابع من حزيران 1967،
بدلاً من ذلك كله، وفي جو من التعبئة العنصرية، حاول »بيبي« أن يفرض على الإدارة الأميركية (والعالم) منطقه الخاص: الأمن الإسرائيلي قبل السلام الأميركي!
و»الأمن الإسرائيلي« ينسف الاتفاقات المعقودة مع الفلسطيني، على بؤسها، ويجهض »المسيرة السلمية« في إطار مؤتمر مدريد التي ترعاها الولايات المتحدة، والتي يهز تجمّدها، ثم سقوطها، صدقية بيل كلينتون شخصياً ويُفقده الإنجاز الوحيد(؟) في السياسة الخارجية الذي يزكّيه داخلياً في معركته الانتخابية… هذا مع التذكير بأن كلينتون لم يقصّر أبداً في مجال تدعيم »الأمن الإسرائيلي«، وعلى حساب أمن الفلسطينيين بالذات والعرب أجمعين.
وفي معلومات بعض الأوساط الدبلوماسية ما يفيد أن بنيامين نتنياهو كان يريد أن يصل بالتعبئة إلى ذروتها العملية في أواسط تشرين الأول المقبل، وذلك بتوجيه ضربة عسكرية قاسية إلى القوات العربية السورية، في لبنان، أو ربما داخل سوريا ذاتها، لاستثمارها سياسياً في واشنطن بإحراج بيل كلينتون وإخراجه، وتأمين الغلبة لمنافسه بوب دول، ليس فقط بقوة الصوت اليهودي، بل بإظهار كلينتون عاجزاً أمام الناخب الأميركي، كما أمام »أصدقائه العرب«، ناهيك بالأوروبيين… ويكون »بيبي« بذلك قد ردّ على الدعم المطلق الذي وفّره كلينتون لخصمه الانتخابي شيمون بيريز.
وفي تقدير هذه الأوساط الدبلوماسية فإن الإدارة الأميركية باشرت هجومها المضاد منذ لحظة فوز نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية.
وهي تعدّد المحطات العربية لهذا الهجوم المضاد: بدءاً بالقمة العربية في القاهرة ونجاحها الملحوظ في لجم »المهرولين«، وردع الملك الأردني عن المضي قدماً في الترويج لنتنياهو، ثم تحريض أكثر من عاصمة عربية على التباطؤ في »التطبيع«، والتغاضي عن تعطيل اجتماعات اللجان المتعددة، وصولاً إلى الرعاية المصرية الكلية للسلطة الفلسطينية وسعيها الدائم لتصليب موقفها،
وليس سراً أن بيل كلينتون كان اشترط لاستقبال نتنياهو في زيارته الأخيرة إلى واشنطن أن يلتقي، قبل السفر، ياسر عرفات ويسمع منه.
وتستدرك هذه الأوساط الدبلوماسية فتقول: وليس ذنب كلينتون أن يكون عرفات قد تبرّع بصورة اللقاء فلم يأخذ من نتنياهو الثمن الذي تستحقه مثل هذه الصورة الضرورية جداً له.. عربياً وأوروبياً وأميركياً!
أما المحطة الأخيرة، قبل انفجار الدم الفلسطيني، فتتمثل في موقف القاهرة الصارم من المؤتمر الاقتصادي الذي يرى فيه نتنياهو فرصته الممتازة لفرض نفسه على العرب (وأوروبا خاصة) والعالم كله، بصورته الأصلية ومن دون تنازلات، بحيث يُسلَّم به بعد ذلك ولا يحاسبه أحد على تطرفه.
أما بعد انفجار الدم الفلسطيني فإن قرار مجلس الأمن، والموقف الأميركي داخله، رسالة أكثر من واضحة.
* * *
إنه انتصار دبلوماسي أميركي باهر، إذن.
ولأن الحصة العربية عموماً، والفلسطينية خصوصاً، مبهمة وغير محددة بل وغير ثابتة فمن الطبيعي أن يتردّد الرئيس المصري حسني مبارك، في قبول اللقاء مع نتنياهو بينما هو يكابر فيتمسّك بقراره فتح النفق تحت الحرم القدسي، (مع أن تعنته هذا يكلّفه، على الجبهة الإسرائيلية الداخلية، هزة عنيفة تتجاوز الأطر السياسية لتخلخل علاقة حكومته المتصدعة أصلاً مع المؤسسة العسكرية التي لن يكون رئيس أركانها أمنون شاحاك الخارج الكبير الوحيد منها… وربما أيضاً بتحريض أميركي).
ومن أسف فإن عجز السلطة الفلسطينية عن رفع سقف مطالبها السياسية يجعل حصة الفلسطينيين أقل مما يستحقون،
فهذه السلطة التي لم تفكّ اشتباكاتها المتعددة مع القوى الحية داخل المجتمع الفلسطيني قيد التأسيس في الداخل، تبدو أضعف مما يجب في هذه اللحظة، تاركة للرئيس المصري أن يغطي ضعفها مستفيداً من المناخ الدولي المؤاتي.
* * *
ويصمت الرصاص فيعلو صوت العجز السياسي.
تُوارى أجساد الشهداء الثرى، وتُمسح آثار الدم عن إسفلت الشارع وبلاط الأرصفة وأعمدة الحرم القدسي، وتضج فلسطين والأرض العربية بالأسئلة المقلقة: ماذا بعد؟! ما هي الخطوة التالية؟! كيف لا يضيع الدم هدراً؟! كيف نأخذ في السياسة ما يعوّض التضحيات ويبرّرها، ويحمي أهلنا من الموت العبثي، داخل الحصار، أو داخل قوقعة العجز؟!
وبرغم كل الدلائل والإشارات الواضحة، فليس ما جرى على أرض فلسطين مجرّد جولة في حرب محدودة بين بيل كلينتون وبنيامين نتنياهو،
إنها، في وجهها الآخر، جولة جديدة في النضال الوطني الفلسطيني، وطور جديد في الصراع العربي الإسرائيلي،
ومع رسوخ التطرّف الإسرائيلي وتجذّره، فإن هذه الجولة مرشحة لأن تمتد طويلاً، وتحقق نتائج تفوق ما يقدّره الذين خططوا لها،
وأرض فلسطين ولاَّدة،
والأرض العربية حبلى بالاحتمالات التي قد تتخطى الحسابات الانتخابية لكل من واشنطن وتل أبيب.

Exit mobile version