طلال سلمان

ليست ساعة حساب مع عرفات

ليست ساعة الحساب… إنها ساعة مواجهة الخطر الداهم على فلسطين، قضية ووطناً ومشروع دولة، ومن ثم »سلطة« تمثل وتكاد تختزل ذلك كله في قيادتها المحاصرة والمعزولة عن العالم، والتي تواجه من الخارج ضغوطاً هائلة، كما تواجه في الداخل »حروب الوراثة« ولو عن طريق »المشاركة« ولو بأسوأ الرموز القمعية وأشدها فساداً.
إن فلسطين تواجه، في هذه اللحظات، خطر التفتت كقضية، والضياع كوطن، والانهيار كسلطة وطنية لمشروع دولة، لن يجد المقتتلون على »تركتها« إلا الحرب الأهلية أو ما هو أفظع: الاندثار..
ولن ينفع توجيه اللوم أو القسوة في الانتقاد إلا في تبرير خطة العدو في التدمير السياسي لكل ما لم يستطع تدميره بالسلاح جواً وبراً وبحراً أو بالحصار الشامل والاغتيالات اليومية وجرائم القتل الجماعي المقصود، أو بجرف البيوت وتهديمها (وأحياناً على رؤوس أهلها) وإعدام الأشجار لاستكمال بناء جدار الفصل العنصري الذي سيلتهم مع المستعمرات الاستيطانية معظم أرض »الدولة الفلسطينية« العتيدة… ما بعد غزة!
ومن الضروري إرجاء محاسبة السلطة ورئيسها التاريخي والشامل والشرعي ياسر عرفات على التفرد في القرار، و»حماية« الفساد والإفساد في السلطة وبواسطتها، حتى لا يأتي الانهيار محققاً لمقولة أرييل شارون التي تبنتها الإدارة الأميركية بلا نقاش، والقائمة على الادعاء أن »ليس ثمة شريك فلسطيني لإسرائيل«، ليمكن بالتالي الاندفاع إلى تحقيق »رؤيا« جورج بوش بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب (أو في جيب) دولة إسرائيل!
فسيظل ياسر عرفات، المحاصَر والمقاطَع من أشقائه المسؤولين العرب، بالأمر أو بالخوف، والمعزول عن العالم، وحتى إشعار آخر، كما كان منذ إقامة السلطة الوطنية باتفاق أوسلو (1993)، وكما كان منذ أن تولى أمر منظمة التحرير (1968) وكما كان من خلال نجاحه بالتفرد على قمة حركة »فتح«، منذ أربعين عاماً… سيظل (ومع الأسف) الممثل الشرعي والوحيد لشعب فلسطين ولسلطتها… وربما لقضيتها في هذه اللحظة السياسية الحاسمة.
وبالتأكيد فإن ياسر عرفات سينال المزيد من التزكية لموقعه (وربما لصلاحياته!) كلما اشتدت عليه الحملة الأميركية الإسرائيلية ورشحت كبدائل منه أمثال الدحلان و»أبي مازن« ناهيك بقريع وشعث وعريقات وسائر الموظفين أو المشبوهين والمطعون في وطنيتهم كما في نظافة أكفهم..
* * *
لم يكن ياسر عرفات أبداً غير ما هو عليه اليوم!
ولقد كان أمراً خطيراً وسيئاً في مردوده على القضية أن يحصر ياسر عرفات في شخصه »كل فلسطين« الكفاح المسلح ومنظمة التحرير والسلطة… لكن ذلك أمر قد تمّ من زمان، ولن يؤدي نقضه في هذه اللحظة إلا إلى مزيد من إنهاك السلطة المهددة بالتفكك، وتعزيز منطق الاحتلال الإسرائيلي المعزز بالتأييد الأميركي، وتبرير التخلي الأوروبي (باستثناء فرنسا، وإن كانت قد زادت من وتيرة نصائحها التي لا تنفع وحدها في تغيير الواقع)..
ولا يمكن محاسبة عرفات بمفعول رجعي، في هذه اللحظة، وعلى أيدي كثرة من الذين يفترض أن يُحاسَب »السيد الرئيس« على تقريبهم وإيثارهم بالمناصب والمنافع والمغانم (وبعضها بمئات ملايين الدولارات).. فإن كان لا بد من حساب فعلى هؤلاء وأمثالهم بداية، خصوصاً أن إفسادهم (الوطني!!) قد شجعهم على الاندفاع إلى حدود تداني الخيانة الوطنية في »حواراتهم« مع العدو الإسرائيلي، والتي كانت تجري في أحيان كثيرة بالعبرية، وتحظى دائماً بالتشجيع الأميركي إلى حد التحريض!
وعلينا أن نتذكر دائماً دور إسرائيل في إنهاك السلطة الفلسطينية، لا سيما خلال السنوات الثلاث الماضية، بمحاصرة رئيسها، وإعادة احتلال الضفة الغربية، وفصلها تماماً عن غزة، والتضييق عليها مادياً، وعلى حركتها السياسية..
وعلينا أن نتذكر أيضاً أن الحصار الإسرائيلي قد أثمر فتم تخلي الأكثرية الساحقة من الأنظمة العربية عن هذه السلطة المفقَرة والمحاصَرة والمعزولة، فحجبت عنها المساعدات المقررة في القمم العربية المتوالية، ثم حُرمت حتى من المساعدات العينية أو النقدية التي كانت تصلها من بعض الأنظمة أو بعض الطامحين إلى »زعامة الأمة«، سواء اتخذت شكل »تعويضات« لأسر الشهداء، أو شكل مستشفيات ميدانية وسيارات إسعاف، أو شكل مساعدة مباشرة بإرسال مئات من البيوت الجاهزة لإيواء بعض من جُرفت بيوتهم، فضلاً عن التبرعات الشعبية (أو الرسمية المموّهة) والتي كانت تصل عن طريق جمعيات خيرية أو أفراد والتي توقفت تماماً تحت تهديد مرسليها بسيف »الإرهاب« المصلت منذ حين على كل من يقدم للفلسطينيين زجاجة دواء أو كيساً من الطحين أو بعض المياه المعدنية، فضلاً عن التجرؤ على »تهريب« بعض الأموال نقداً!
وعلينا أن نتذكر، أيضاً وأيضاً، أن بعض ما وقع في غزة خلال الأيام القليلة الماضية ليس »هبّة غضب عفوية«، وإنما هو مدبّر ومحضّر سلفاً لإكمال الحصار على »الرئيس« وإجباره على التنازل عن معظم صلاحياته لأولئك الذين يتعجلون التسليم بالشروط الإسرائيلية، طلباً لاستعادة »الراعي الأميركي« وخريطة الطريق التي ترك لشارون شرف تمزيقها.
ولا يمكن النظر، مثلاً، الى اختطاف رعايا فرنسيين جاءت بهم انسانيتهم وإيمانهم بعدالة القضية الفلسطينية، وحجزهم في الهلال الاحمر الفلسطيني، على انه تصرف عفوي قام به بعض »الرعاع« او بعض المحتجين على »فساد السلطة« والمطالبين بالإصلاح، طلبا لاعادة الزخم الى الرعاية الدولية للقضية.
إنه أمر دُبِّر بليل، من اجل احراج السلطة وإظهار عجزها عن السيطرة، وإجبارها على أن تسلم بضرورة »اعادة الشراكة« مع الذين أخرجتهم من نعيمها حين اكتشفت انهم يحاولون بيع جلدها (سلفا) كثمن لاعتمادهم من قبل الادارة الاميركية ومن ثم حكومة شارون كشركاء مؤهلين لعقد الصفقة مع اسرائيل.
على أن هذا كله لا يعني ان المطالبة بالاصلاح وتطهير السلطة من الفاسدين ووقف عمليات الإفساد المقصود، والالتفات الى إشراك القوى المناضلة في القرار، ليست محقة…
على العكس تماماً: فالمطالب محقة، لكن حملة رايتها ليسوا هم اصحابها حقيقة، وليست تلك اهدافهم من حملها، وإنما هي الذريعة لاجبار السلطة على التسليم للاعظم فسادا بأن يحلّوا محل الفاسدين!
***
تكفي مراجعة متسرعة لما قالته الصحف الاسرائيلية في احداث غزة من اجل التوصل الى محاكمة صحيحة لما جرى خلال الأيام القليلة الماضية:
؟ »حلم ارييل شارون الاكبر يتحقق امام أعيننا. السلطة الفلسطينية تفقد ما تبقى من نفوذها. عرفات ما زال يلفظ انفاسه، متنفساً بطريقة ما، ولكن أتباعه يتبعثرون… يديعوت احرونوت «
؟ »انها منافسة مشوقة بين سياقين: الانفصال فك الارتباط من تأسيس ارييل شارون، ضد الانحلال التفكك على اسم ياسر عرفات«.
»عرفات لا يزال رمزا. لا يزال اسطورة. ولكنه ليس حصينا ابداً معاريف«
؟ »انحلال السلطة في غزة ضربة اخرى لحكم عرفات المتآكل، مع ذلك فهو يواصل بقاءه. محمد دحلان هو المحرّض، لكنه لا يستطيع مواجهة القيادة الشرعية بالتأييد الاسرائيلي… خسر عرفات مرتين: خضع لابتزاز العصابات، واستبدل المكروهين بأسوأ منهم هآرتس«.
***
أبأس ما في الواقع الفلسطيني ان سلطته الشرعية لا تستطيع ان تستنجد بأي طرف عربي، فضلاً عن الاطراف الخارجية النافذة.
وأسوأ منه ان الشعب الفلسطيني عموماً لا يمكنه أن يأمل بأن تمد إليه يد المساعدة من قريب او بعيد… وأنه محكوم بأن يؤيد سلطته الشرعية وهو يعرف عن فسادها اكثر مما يعرفه »الخارج«، وأن يقبل بعض الفاسدين فيها حتى لا تنهار، لان زمن التغيير الذي يطلبه قد مضى وانقضى، وأنه مضطر مرة اخرى للتسليم بشعار: إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ولقد يكون صحيحاً استشهاد بعض الصحف الاسرائيلية بكلمة لونستون تشرشل جاء فيها: »هذه ليست النهاية، وهي ليست حتى بداية النهاية، ولكنها قد تكون بداية النهاية«.
والكلمة، بعد، لياسر عرفات… فهو ما زال الاول، والاقوى والاقدر على اتخاذ القرار بإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ولعله ينتظر الآن نجدة من الخارج (العربي والاميركي وحتى الاسرائيلي) تأتي على شكل العودة الى الحديث معه ولو كارهين وعلى مضض خوفاً من انهيار فلسطيني شامل يؤثر على الكثير من الاوضاع العربية بقدر تأثيره على أسرائيل، وربما أكثر.

Exit mobile version