طلال سلمان

لو يكتمل هذا لقاء بقوى تغيير جميعا

لا يجادل أحد في أن الاثنين الواقع فيه السادس من شباط 2006 هو »يوم آخر« في الحياة السياسية اللبنانية، مختلف إلى حد التضاد في المعاني والدلالات عن يوم »الأحد الأسود« الذي سبقه فدفع بالناس إلى حافة اليأس من الوطن الصغير ودولته المفككة، ثم إنه يؤسّس لمرحلة جديدة تكاد تكون مقطوعة الصلة بما كان قبلها.
وليس كثيراً أن يوصف الحدث الذي شهدته كنيسة مار مخايل الشياح، على الحد الفاصل بين الحرب الأهلية والسلم الأهلي، بأنه »انقلاب سياسي«، أو أنه »مدخل إلى مرحلة تأسيسية« لحياة سياسية في لبنان مختلفة بالتأكيد عن كل ما سبقها من مراحل، بكل ما حفلت به من تحالفات عارضة أو مخاصمات تكتيكية أو منافسات على الحصص في السلطة.
إنه تلاق بين كتلتين سياسيتين تحظى كل منهما بشعبية استثنائية، ثم إنهما مختلفتان على كثير من الأمور، وخلافاتهما معلنة، وقد حرصا على إعلانها مجدداً، ولم يسع أي منهما إلى إخفائها تحت السجادة وهو يبتسم للكاميرا منافقاً جمهوره ليحصل على أصواته الانتخابية، ثم يمضي كل منهما في طريق مفروشة بالوعود التي ستُترك للانطفاء في قلب النسيان.
وصحيح أن كلاً من قيادتي »حزب الله« و»التيار العوني« قد مهّدت في مناسبات عديدة، مؤخراً، لهذه الانعطافة في الحياة السياسية بالحديث عن »ورقة تحضّر على مهل« تحصر فيها نقاط الخلاف ونقاط الاتفاق، بحيث يتم الإعلان عن التلاقي على المشترك من الثوابت وترك البقية للتجربة والتطورات المقدّر أنها ستتلاحق، وبطريقة درامية، بحيث تكون »الامتحان بالنار« لهذا التعاون ومدى قابليته لأن يتحوّل إلى تحالف جدي على قاعدة برنامج مشترك للتغيير في لبنان يتلاقى مع المطامح الشعبية للخروج من النفق المسدود بالمصالح الفئوية والأغراض الشخصية والاتجار بالعصبيات الطائفية والمذهبية.
والقيادتان تتميزان بجدية تصل إلى حد الصرامة، إذا ما استرجعنا تاريخ »حزب الله« والسيد حسن نصر الله على رأسه، وتجربة العماد ميشال عون القاسية (عليه وعلى اللبنانيين).
ثم إن القيادتين على اختلاف الموقع والتجربة قد صمدتا في مواجهة اتهامات شتى ومحاولات للغواية متعددة المصادر والأهداف، بعضها بلغ حد التشكيك في وطنية أحدهما أو كليهما، عن طريق الإيحاء بارتباطات خارجية تمتد من سوريا إلى إيران، بالنسبة إلى »حزب الله«، وتمتد من سوريا إلى الإدارة الأميركية بالنسبة للعماد عون!
* * *
إنه انقلاب سياسي شامل سينتج خريطة جديدة للحياة السياسية في لبنان، بقواها المختلفة، وبالتحديد الجدية منها لا الموسمية والفولكلورية والانتهازية والتي تنبت كالفطر ثم تنطفئ مع تبدل اتجاه الريح، أو مع الوصول إلى المنصب السامي.
إن لغة البيان المشترك، أو وثيقة التعاون، تختلف بدلالاتها عما سبق أن قرأ اللبنانيون أو سمعوا من كتل اللقاءات العارضة التي غالباً ما كانت تقوم »ضد« كتل أخرى، أو لقطع الطريق على مرشح للرئاسة، أو على تشكيلة حكومية، ثم ينتهي دورها مع إعلان اسم الفائز (أو الفائزين)، ويذهب مَن كان فيها إلى تكتل آخر ترقباً أو سعياً لتبديل آخر في مواقع السلطة.
وكما في أي بيان أو وثيقة تعاون مشترك بين مختلفين، فلقد تمّ تحديد الثوابت التي لا يجوز فيها التنازل أو التساهل، بينما لكل فريق أن يحتفظ بمواقف في برنامجه الخاص لا يوافق عليها الطرف الآخر… كذلك فقد اقترب كل من الفريقين من »شريكه« الجديد فسلّم له (أو ربما تنازل له) بما لم يكن يوافق عليه لو أنه استمر يناضل من أجل برنامجه الخاص.
من هنا فقد جاء البيان المشترك أو وثيقة التعاون في غاية الدقة والتحديد، ويمكن رصد »التنازلات« بسهولة، كما يمكن رصد مدى التقدم الذي أحرزه الطرفان في الجهد الذي بذلاه من أجل التلاقي على الثوابت المشتركة.
لعله أول مشروع لتحالف سياسي من طبيعية انقلابية: بمعنى أنه يرسم ملامح دولة أخرى، غير هذه التي نعرف بأمراضها ووجوه قصورها وتخلفها عن تلبية الحد الأدنى من مطامح هذا الشعب المهدد دائماً في سلامته كما في لقمة عيشه فضلاً عن حقه في التقدم.
إنه برنامج يتجاوز الحكم والحكومة إلى رؤية مختلفة للدولة ومهماتها الأصلية، وبينها ترسيخ الوحدة الوطنية و»السماح« بتمثيل صحيح للقوى الحية الطامحة إلى تحقيق حلمها (وهو حقها) في التغيير.
* * *
لقد عرف لبنان العديد من الجبهات السياسية، لا سيما في المحطات الفاصلة من تاريخه، لكنها جميعاً قد اندثرت بعد تحقيق هدفها المباشر في التغيير على قمة السلطة.
وبقدر ما ينظر اللبنانيون إلى مشروع التحالف السياسي الجديد كأنه يؤسس لمرحلة مختلفة تماماً عما سبقها، فإنهم قد ارتاحوا إلى رمزية هذا اللقاء بموقعه، وتوقيته، وبرنامجه وهوية
المشاركين فيه والمشترك في طروحاتهما السياسية.
وبالتأكيد فإن اللبنانيين يتمنون لو اكتمل عقد هذا اللقاء، الذي يقع عشية الذكرى الأولى لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري، بتوافق مع القوى الأخرى الطامحة للتغيير والخروج من دوامة رمي مشكلاتنا وأخطائنا على الآخرين، والتصرف كأن اللبنانيين ملائكة مطهّرون والعيب في غيرهم الذي ما زال يملك من القوة ما يمنعهم من ضبط أمن تظاهرة فكيف ببناء دولة تلبي طموحات هذا الشعب المهدد في يومه كما في غده.
لقد كانت خسارة لبنان وأهله العرب وأصدقائه في العالم باغتيال رفيق الحريري فادحة، وهي قد ضربت حاضره بزلزال يكاد يضيّع منه مستقبله.
ولا يمكن التعويض عن غيابه إلا بالتفاف القوى المؤهلة للتغيير والقادرة على إحداثه، إذا ما هي ائتلفت تمهيداً لأن تتحالف على قاعدة برنامج جدي ومدروس وشامل لا يحكمه الغرض أو الهوى، ولا تحرقه الحماسة أو التعجل، ولا تدمره النزعة إلى الوحدانية في احتكار السلطة.
فلبنان الغني بتنوعه لا يحكمه إلا ائتلاف سياسي مفتوح العين على الغد مع وعيه بمشكلات الحاضر، تتجمع فيه قوى التغيير على قاعدة برنامج معلن وملزم يكون هو القاعدة لتجاوز الحساسيات الطائفية والمذهبية.
ولعل بين مصادر الأمل في هذا »التكتل السياسي« المرشح لأن يغدو تحالفاً بين »حزب الله« و»التيار العوني« أنه يكسر المناخ الطائفي الذي ساد ثم تدرج إلى المذهبية، والذي كاد يخنقهم في نفقه المسدود.

Exit mobile version