طلال سلمان

لنحم المقاومة

الحمد لله أن يوم 13 نيسان قد تحوّل من ذكرى للانقسام إلى حد الاقتتال الأهلي إلى مناسبة للمصالحة بين »رؤوس الحكم« تحدّ من إمكان تحوّل »حروبهم« إلى انشقاق على المستوى الوطني يهدد وحدة الشعب وحلم الدولة التي دائماً قيد التأسيس..
.. ولقد فعل »رؤوس الحكم« كل ما بوسعهم لاستنفار الحساسيات والغرائز، وتمترسوا خلفها ليؤكد كل منهم أنه الشعب والدولة معاً، لكن اللبنانيين واصلوا حياتهم وهم يمضغون همومهم الثقيلة التي يزيد منها توافق »الرؤوس« بأكثر مما يزيدها مسلسل خلافاتهم التي لا تتوقف إلا لكي تجدد نفسها فوق القمة وتحتها وبين بين..
بعد 23 سنة من ذلك اليوم الأسود، بكل ما تفجّر من أحقاد وصراعات ومنافسات ومصالح، وبكل ما حفلت به »الحروب« المتتالية من مآس وتجارب ودروس، افترض اللبنانيون ان عصر المرارات والآلام قد انتهى، وأن أفق السلم الأهلي قد انفتح أمامهم على مصراعيه،
لقد وصل الجميع الى »خط النهاية« منهكين، كل مثخن بجراحه وبأوهامه الخائبة في نصر مستحيل، وانتبهوا متأخرين إلى أن إسرائيل كانت المستفيد الأول، وأنها ما زالت بالمرصاد لوحدتهم ولسلمهم ولأحلامهم باستعادة الدور والازدهار والرخاء العميم..
… وها هي تحاول من جديد إشغالهم بأنفسهم عنها، فتعرض »الانسحاب« من الشريط المحتل بشروط تمد احتلالها إلى قلب مركز القرار في بيروت، وإلى قلب كل طائفة وكل مذهب بما يُسقط وحدة الشعب ومشروع الدولة.
وبهذا المعنى فإن حروب المواقع في قمة السلطة أكثر من جريمة، إنها خطأ سياسي شنيع، من شأنه أن يمكن الدورة الجهنمية من إعادة إنتاج ذاتها: يختلفون فوق فيقسمون الجمهور تحت، ويتم تعطيل عامل التوحيد الأساسي والوحيد.. الدولة!
الدولة .. تلك هي المعضلة!
ما تزال حتى اليوم »مشروعا« قيد التأسيس.. علتها في رأسها!
ولأن الرأس معتل فإنه يبقى مصدراً لأمراض الشقاق بدل أن يكون مصدر السلامة وبلسم الخائفين والمحرومين والمحبطين على السواء.
كيف برأس منقسم على ذاته يمكن مواجهة المشروع الإسرائيلي، الذي يراهن على الانقسام الداخلي ويتغذى به ولا ينجح إلا بواسطته؟!
* * *
بعد الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982، والتجربة الخارقة في مقاومته ثم في إسقاط اتفاق الاذعان في 17 أيار 1983، وبعد النجاح المتميّز في القضاء على الفتن الإسرائيلية ومفاعيلها المحلية متمثلة في حروب الضاحية وبيروت والجبل وشرقي صيدا الخ. بزغ فجر جديد للبنان الوطن، عبر تنامي ظاهرة المقاومة الوطنية الإسلامية للاحتلال الإسرائيلي.
بدل المقتتلين على مزابل الطوائف، جاء المقاتلون باسم الوطن ولأجله.
وبدل المعارك الخطأ في مكانها وزمانها وأهدافها جاء القتال الصح في المكان الصح والزمان الصح والهدف الصح: ضد العدو، الذي كان أول وأعظم المستفيدين من حروبنا الأهلية، تلك المحلية بأدواتها وشعاراتها، أو تلك المعرّبة، أو تلك المدوَّلة إلى حد أنها لا تعني أحداً!
اليوم، وفي سياق النقاش حول العرض الإسرائيلي لتنفيذ القرار 425 بشروط مرفوضة، نوجه بغير قصد، غالباً مجموعة من الإساءات إلى المقاومة، فكرة ومؤسسة وأسلوب عمل.
1 مرة، نتحدث عن المقاومة أو نشير إليها بخفة شديدة وكأنها مجرد أداة تكتيكية استولدت لغرض محدَّد ومحدود ويمكن سحبها من التداول فوراً، إذا استدعت »الحاجة« طي الصفحة والاستعداد »للعصر الجديد«.
2 ومرة نستذكرها بامتهان لدورها الوطني والقومي (الإسلامي) وكأنها قوة قتال محترفة، أو »مرتزقة« استأجرناها، أو أجّرها لنا غيرنا لمهمة المشاغبة على الاحتلال حتى إذا اعترف بنا شطبناها وأنكرنا انتماءها إلينا أصلاً،
أي أن المقاومة، في بعض »أدبياتنا« وتصريحات المسؤولين الكبار عنا، ليست فعلاً إرادياً منبعه الوطنية، أنبته الإيمان بالأرض وإنسانها وحق هذا الإنسان فيها،
إننا نكاد، أحياناً، نجرّدها من »قضيتها« التي يعترف بها العالم أجمع، والتي بسببها إلى حد كبير أعاد اعترافه بنا ومعه الاحترام والتقدير إلى حد اتخاذنا المثل والقدوة.
3 وفي بعض »الأدبيات« الرسمية أو شبه الرسمية وشبه الشعبية وشبه الدينية، نكاد نعتذر لإسرائيل عن العدائية المبالغ فيها التي يعبّر عنها هذا الاتجاه المتطرّف (ونكاد نقول: الإرهابي) الذي تنتهجه المقاومة..
.. وكأنما نحن مَن يحتل أرضاً »ورثها« الإسرائيليون عن جدودهم الغابرين!
4 وفي بعض »الأدبيات« أيضاً ما يوحي وكأنما احتلال بعض الجنوب والبقاع الغربي أمر طارئ وغير مألوف ولا سابقة له في السياسة الإسرائيلية: لا في فلسطين، ولا في مصر، لا في الأردن ولا في سوريا الخ… وبالتالي فإن محاولة الإفادة من تجارب الآخرين تصبح ترفاً أو تزيّداً لا مبرّر له،
بل ان البعض يكاد يذهب إلى التأكيد بأن إسرائيل تراعي »وضع لبنان الخاص«، ويكاد يحلف إيماناً مغلظة نيابة عنها بأن لا مطمع لها لا في حبة من ترابه ولا في قطرة من مياهه!
5 الأخطر أن بين اللبنانيين، وفيهم مسؤولون، مَن يعتبر المقاومة حملاً ثقيلاً ويتعجّل الخلاص منها وتبرئة الذمة من أي »عنف« في مواجهة الاحتلال.
إن ثمة مَن يلمح إلى المقاومة وكأنها »قوة وافدة« أو »طارئة« وآن أن تجلو عن »أرضنا«،
ولولا شيء من التحفظ (أو الخوف) لتحدث البعض عن المقاومة وكأنها قوة احتلال أخرى، بل هي مشكلة أكثر تعقيداً لأن إسرائيل قد تنسحب ذات يوم، أما المقاومة فباقية حتى يوم الدين!!
وفي كثير من الكلام الرسمي (على تعدد المراجع الرسمية!!) ما يوحي وكأن المقاومة جسم غير لبناني، وما يفيد بأنها منفصلة تمام الانفصال ليس فقط عن الدولة، بل حتى عن الشعب: لا هي منه ولا هو معني بمصيرها،
بالمقابل فإن إسرائيل تتحدث عن ميليشيا لحد من المرتزقة بمزيد من الحرص والاهتمام بمستقبلهم، فتطالب لهم بالضمانات، وتشترط دمجهم بالجيش، وتصر على إبقائهم »واقياً من الصدمات« لجنودها حتى بعد الانسحاب،
ولا نذكر هذا من باب المقارنة، أو التشبيه ولكن، من باب استكمال العرض، في الشكل.. أما المضمون فليس بحاجة إلى توصيف.
* * *
قد تكون لدى إسرائيل أسباب كثيرة لتقديم عرضها الاعتراف بالقرار 425 مقابل شروط عديدة بينها التفاوض والترتيبات الأمنية والضمانات واستيعاب ميليشيا لحد الخ..
وبغض النظر عن مدى جدية إسرائيل في عرضها هذا، فلا بد من الاعتراف للمقاومة (الوطنية الإسلامية الشعبية المسلحة النوعية الجماهيرية الخ) بإنجاز مشرف:
لقد أجبرت إسرائيل، ولأول مرة في تاريخها الحافل بالحروب والاعتداءات والاحتلالات، على القول بمبدأ الانسحاب من دون أن تربطه بمعاهدة سلام، أو بما يجعل احتلالها أقل كلفة في الكرامة والمصلحة الوطنية ومفاهيم السيادة والاستقلال من الانسحاب.
واجبنا اليوم، وأكثر من أي يوم، أن نحمي المقاومة.
واجب الشعب وواجب الحكم وواجب المؤسسات التي يفترض أنها تشكل نواة الدولة قيد التأسيس.
لا واجب يتقدم على هذا الواجب المقدس. والمقاومة أهم من القرار 425، ولولاها لما تذكرت إسرائيل هذا القرار المنسي..
فلنحمِ مَن حمانا وحمى حقنا المشروع في أرضنا،
فلنحمِ مَن حوَّل اقتتالنا الهمجي الذي كاد يقضي على الإنسان وعلى الدولة في لبنان، إلى قتال من أجل الأرض والإنسان ليكون لبنان وطناً.
… ولكي لا تُستعاد 13 نيسان.

Exit mobile version