طلال سلمان

لم يات سياحة او لقتل 425

مخطئ مَن يفترض أن كوفي أنان قد جاء إلى لبنان لغرض احتفالي محدّد هو الاحتفال معنا بعودة »الأسكوا« الى بيروت، والإشادة بهذا النموذج الناجح »لبلد يبني السلم بعد الحرب«، والبحث في كيف يمكن أن تساعده الأمم المتحدة في إعادة الإعمار والتنمية.
ومخطئ أيضاً، وربما أكثر، مَن يفترض أن الأمين العام للأمم المتحدة قد جاء إلى لبنان وسيطاً أو مفاوضاً مكلفاً ومفوّضاً بتنفيذ القرار 425، أو خاصة بطيه أو ذبحه أو تجاوزه.
مؤكد أن كوفي أنان سيسأل ويستوضح ويدقق ويحاول الاستنتاج كم أثّرت تلك »الأمور الكثيرة التي حصلت في السنوات العشرين التي مضت على صدور القرار«، وكم تغيّر على »الأرض« لا سيما ما يتصل بالذين يمسكون بالأرض،
لكن كوفي أنان الذي نشأ وتدرّج في الأمم المتحدة حتى بلغ منصب القمة فيها ليس رجل دولة، ولا هو سياسي محترف، بل هو نموذج متميّز »للموظف الأممي« المنضبط الذي لا يخرج على موجبات منصبه ولا يتصرف في ما لم يكلّفه به مجلس الأمن مباشرة وبشكل واضح.
وكوفي أنان الآتي إلى المنطقة متوّجاً بنجاح دبلوماسي باهر حققه في العراق، وفتح له الأبواب العربية على مصراعيها، سيكون أكثر تحفظاً الآن وهو يتحرك فيها، يسمع من مسؤوليها شكاواهم ومطالباتهم الملحة، وانتقاداتهم العلنية أو المضمرة »للكيل بمكيالين« في ما يتصل بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي حول العدوان الإسرائيلي المفتوح والاحتلال الاسرائيلي المستمر.
إنه يعرف جيداً أنه ما كان لينجح في بغداد لولا أنه نجح قبلاً في إقناع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن بأن مسعاه الأخير ضروري وحيوي، خصوصا في ظل انقسام مواقفهم، لأنه يوفر »المخرج اللائق« للجميع: لكلينتون القائل بحرب يرفضها الآخرون، ولروسيا والصين وفرنسا الرافضة حرباً غير مبرّرة، ولصدام حسين الذي يريد »حفظ ماء الوجه« بتفاوض ما، وعلى مستوى لائق، ولو كان الثمن تفتيش غرفة نومه.
وليست هذه هي الحال في جولته الجديدة، بمختلف محطاتها، ولا سيما لبنان،
فلا هو مكلّف ولا هو مفوّض، كما أنه أذكى من أن يتصرف من عندياته، ولا يملك أن يحرق المراحل، ولا يريد أن يحرق نفسه…
لم يخجل في أن يعلن أن لعملية السلام وكيلها الأوحد المعتمد، أي الولايات المتحدة الأميركية، وأنه في أحسن الحالات قد يكون وسيطاً لدى الوسيط الأصلي لتذكيره بما أهمله أو جمّد نشاطه فيه،
أما في ما يخص لبنان والقرار 425 فإن كوفي أنان لم يُكلف من الجهة صاحبة الاختصاص بالتفاوض حول ما لا يُقبل التفاوض حوله، ولا هو مخوّل بتقديم مقترحات جديدة لتنفيذ القرار القديم،
والأمر سهل في لبنان، ولكنه قد يكون أكثر تعقيداً مع الإسرائيليين، الذين قد يحاولون توريطه، أو قد يحركون لديه »عقدة ذنب« ما، بالتعامل معه وكأنه »نصير للعرب« من خلال تجربته العراقية، ليجرّبوا استدراجه إلى مجاملتهم بالمبالغة في إظهار حَيدة قد تؤذي مهمته ومنصبه والدور الدولي الذي انفتح أمامه بعد بغداد.
مفيدة هي الزيارة، بلا شك،
ومفيد جداً أن يسمع الأمين العام للأمم المتحدة مباشرة رأي لبنان ومنطقه، خصوصا وأن أهل الحكم المختلفين على الأمور الأخرى متفقون، ولله الحمد، على موقف موحد وثابت من هذا القرار الذي لا يحتمل الجدل أو الاجتهاد في قراءته أو سوء التفسير لنصه الواضح.
ونتمنى ألا يأخذنا كوفي أنان بعاصفة »18 آذار« التي انطلقت من مجلس الوزراء لتنثر غبارها الطائفي المذهبي الأصفر فتُفقد الكثير من اللبنانيين القدرة على الرؤية وتبيُّن الطريق إلى مطامحهم الوطنية.
نتمنى ألا يفترض في المسؤولين اللبنانيين انهم معنيون بأغراضهم وأحقادهم ومصالحهم الشخصية أكثر مما هم معنيون بموجبات التحرير، وبين عناوينها السلمية تنفيذ القرار 425.
نتمنى أن يجد كوفي أنان مَن يشرح له (ربما زميلنا السابق والصديق الدائم سمير صنبر) الطبيعة الفولكلورية للسياسة اللبنانية، والخلط الدائم على مستوى قمة الحكم بين »الخاص« و»العام«، بين »الوطني« و»الطائفي«، بين »الحليف« و»الصديق«، وبين صديق العدو وعدو الصديق إلخ.
فليس من لبناني واحد، لأي طائفة أو مذهب انتمى، يقبل باستمرار الاحتلال الإسرائيلي أو يقبل بشروط للانسحاب تشكل كما 17 أيار 1983 اتفاق إذعان، أو ب»ترتيبات أمنية« تضمن للإسرائيليين أن ينعموا بالأمن والسلامة في حين تنقل النار الإسرائيلية إلى داخل كل بيت لبناني.
ولقد اكتوى اللبنانيون بهذه النار في مختلف مناطقهم، وبمختلف طوائفهم، ودفعوا ثمن مراهنات البعض وأوهام البعض الآخر من دمائهم ومن طموحاتهم ومن حقهم في مستقبل أفضل.
ان اللبنانيين يستمتعون بممارسة هواياتهم في الاختلاف على التفاصيل، بما في ذلك تفرعات أو تطبيقات النصوص الدينية، مع العلم بأنهم من الشعوب الأقل تعلقاً بالدين عموماً وبحرفية النصوص المقدسة.
أما في ما يتصل بالاحتلال الإسرائيلي فهم موحّدون وإن فرّقت الحماسة بينهم فرأى البعض أنه لا بد أو لا بأس من دفع ثمن ما للانسحاب، ورأى الآخرون أننا نملك قرارا دوليا صريحا إن فاوضنا حوله قتلناه، وتوهم البعض ان الشروط الإسرائيلية على قسوتها تظل أهون من استمرار الاحتلال،
ان اللبنانيين، حكماً ومواطنين، يلهون في الداخل،
لكنهم في القضية الوطنية جديون، كما كوفي أنان الذي لم يأت سائحاً ولكنه لم يأت إلى لبنان ليذبح القرار المؤتمن عليه، وهو لن يفعل ولا يملك أن يفعل ذلك في إسرائيل.

Exit mobile version