طلال سلمان

للجامعة العربية أفضال على الدول العربية

تعقد الجامعة العربية المؤتمر الدوري لقمتها بعد أيام قليلة وفي ظل تردد محسوس. كثيرون يتوقعون أن تكون هذه القمة، إذا انعقدت وفي الرياض كما هو مقرر، قمة هامة على غير عادة غالبية القمم العربية في السنوات الأخيرة. يتصور بعض من تابع مسيرة الجامعة العربية أن تكون قمة الرياض مفصلية وهو التعبير الذي يشي بمعنى معين، معنى أن ما بعد القمة يختلف جذريا عما قبل القمة. لعله أيضا التعبير الذي يمكن أن يفسر التردد المحسوس الذي يحيط بكافة مراحل الإعداد لهذه القمة.

***

أدرك، ربما أكثر من كثيرين، عمق استهانة الرأي العام العربي وغالبية السياسيين العرب بالجامعة وشؤونها. لهذه الاستهانة، في رأيي، ما يبررها في تاريخ الجامعة البعيد والقريب على حد سواء. تبررها بنود عديدة في قائمة سلبيات يتصدرها سوء أداء الجامعة في كثير من عهودها، سوء أدائها كأمانة عامة ومنظمة إقليمية ومنظمات نوعية متخصصة. قد لا يتسع مجالنا لمهمة تحميل مسؤولية سوء الأداء ولكن يتعين القول بأن الدول الأعضاء تتحمل القسط الأكبر من هذه المسؤولية فالاستهانة بالجامعة نبتت في قصور الحكم العربية ومن هناك انتقلت إلى بيروقراطيات الدول الأعضاء. جاء وقت أذكره جيدا كانت الأهداف العليا للعمل العربي المشترك محل اهتمام شعبي يسبق اهتمام أغلب المسؤولين العرب والمسؤولين في الجامعة العربية. وجاءت أوقات، كالراهنة، يتساوى في التدني واللامبالاة بالعمل العربي اهتمام الرأي العام والنخب الحاكمة معا. كانت هذه اللامبالاة التربة الخصبة التي تغذى عليها دائما ويتغذى سوء أداء هذه المنظمة الإقليمية.

***

أعرف، ومثلي آخرون يعرفون، أن الجامعة العربية كمؤسسة من مؤسسات النظام الإقليمي العربي، نظام بسمات مميزة، تتعرض الآن أكثر من أي وقت مضى لاحتمال الاستغناء عن وجودها. كان يقال، وكنت أنا نفسي من القائلين، أن الجامعة في أبسط تجلياتها كانت منصة يتنافس ويزايد من فوقها السياسيون العرب على مواقف قومية. ظل قولي هذا سائدا طالما بقي المد القومي صاعدا. توقف المد ثم انحسر قبل أن يظهر البديل المناسب للمد القومي ولم يظهر ولا ظهر بديل للعمل العربي المشترك في أي شكل وأي مستوى أو صورة مبتكرة. سمعت من يصور الوضع الحالي المحيط بالجامعة العربية في صورة أشبه ما تكون بصورته في عهود ما قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. في ذلك الوقت احتاجت الجامعة لتنشأ إلى نفوذ بريطانيا العظمى. كانت الساحة حبلى بالأفكار والمبادرات، وكانت الثورة هي النغمة السائدة للتعبير عن غضب الشعوب على الفساد والظلم الاجتماعي والهيمنة الأجنبية. كانت بريطانيا العظمي حريصة على أن تعجل بترتيب البيت العربي استعدادا لانسحابها من المنطقة وتسليمها للولايات المتحدة الأمريكية على أن تحتفظ لنفسها بوضع الحليف والشريك الأصغر لهذه القوة العظمى الصاعدة.

***

أظن، وبعض الظن له ما يبرره، أظن أن غالبية الدول الأعضاء في الجامعة مقتنعة بأن الجامعة وصلت إلى طريق مسدود. تقلصت الحاجة إليها. لا أحد في القصور الحاكمة وقد صارت أقل عددا مما كانت عليه قبل نشوب ثورات الربيع، لا أحد فيها يفكر في استخدام الجامعة منبرا قوميا مثلما كان يفعل أسلافه. لا أحد يريد ربط أمنه وأمن عائلته وبلاده بمنظمة أمن عربية. المألوف الآن والمقبول أيديولوجيا وبراجماتيا الربط بمنظومة أمن أجنبية وبدول جوار غير عربية وشركات ارتزاق عسكرية. لا أحد فيها يعتقد أنه من الصواب وضع خطة تنمية وطنية تعتمد على خطة تنمية عربية تضمن تكامل جوانب من اقتصادات الدول العربية وتيسير انتقال العمالة ورؤوس الأموال وإقامة شركات متعددة الجنسية العربية. لا أحد يريد أن تطبق بلاده مناهج تربية وتعليم تقررها مؤسسة ثقافية تابعة للجامعة العربية. لا أحد، إلا ما ندر، متشبث بالعربية لغة تستحق المحافظة عليها في الجامعات والمدارس. نبهني مفكر عربي كبير إلى أن العربية تنسحب شيئا فشيئا كما انسحبت اللاتينية لتعيش داخل جدران الكنائس والأديرة، طلب مني أن أستمع إلى تسجيلات لرؤساء وأعضاء وفود عربية وزعماء تحدثوا في مؤتمرات عربية في الأربعينيات والخمسينيات وأقارنها بلغة متحدثي وزعماء أيامنا الراهنة. للجامعة العربية مستقبل رغم كل ما أصابها وأحاط بها من تحولات في الإقليم والعالم؟ أجيب، وبدون تردد، نعم لها مستقبل. ولدي حجتان.

***

حجتي الأولى بسيطة وواضحة. هناك أمور وقضايا ما يزال مطلوبا من العرب مجتمعين اتخاذ موقف موحد في شأن بعضها. أقول مجتمعين لأن بعض القضايا وهي ليست خافية على القارئ اللبيب لا يكفي معها قرار بالأغلبية. الدولة أو الدول العربية التي لديها ما تريد أن تمرره إرضاء لطرف قوي خارجي، وما تريد أن تمرره قد يكون ثقيلا على النفس العربية، تحاول ألا تترك طرفا عربيا غير مؤيد أو غير راغب فغيابه عن الإجماع يدعم حجج الرافضين ويقوي سواعد المزايدين. الإجماع العربي ما يزال، وللغرابة، قوة ضغط لا تراها الآن العين المجردة وغير المجربة بينما تراها في أكثر الحالات وتثق في فاعليتها وضرورتها الدبلوماسيتان الأمريكية والبريطانية. دبلوماسيات أخرى فضلت أسلوب شق الصوت العربي وإجهاض الإجماع باعتباره عقبة حقيقية في وجه تحقيق أهدافها التي قد تبدو للرأي العام متناقضة مع فهمه وتقديره وعقيدته. الرأي العام العربي بدون شك مختلف عن الرأي العام في عقود سابقة حتى بعد أن لاقى من محاولات الترويض خلال الثورات وبعدها ما لم تلاقيه أمم أخرى كثيرة. يبقى عصيا إلى حد غير مقبول من الدول صاحبة النفوذ، ولذلك تبقى الحاجة أحيانا ماسة إلى ضرورة توفير الإجماع لتمرير مصلحة دولية كبرى.

***

حجتي الثانية في جوهرها رمزية. أزعم أن لجامعة الدول العربية، على ضعفها وممارسات الاستهانة بها وسوء أدائها المزمن، أفضال على الدول العربية كافة لا يمكن أن تنساها ولا يجوز إخفاؤها عن مواطنيها، وأفضال على الأمة. هذه الأفضال على سبيل السرد والتوضيح وليس الحصر أربعة على الأقل:

أولا: أكثرية الدول الأعضاء في الجامعة العربية لم تكن قد ظهرت في الساحتين الدولية والإقليمية كدول مستقلة وذات سيادة عند تدشين الجامعة منظمة إقليمية بعضوية سبع دول لا أكثر. يعنى هذا أمورا عديده أهمها أن الجامعة الأقدم عمرا من معظم الدولة يحق لها أن تتباهى بأنها أطول خبرة وتجربة في العمل السياسي من معظم الدول الأعضاء. يحق لها أن تتصرف في بعض الأمور كما الأمم المتحدة كبيت خبرة للدول الأعضاء. يعني أيضا أن بعض هذه الدول حصلت على استقلالها بفضل قوى ودول وجهات خارجية تأتي في صدارتها جامعة الدول العربية. كثيرون من الزعماء العرب أشادوا بفضلها وبعضهم تغافل عن الإشادة وبقيت سجلات الجامعة ورواتها يذكرون بهذا الفضل. يعني كذلك أن الفلسطينيين كشعب عربي يسعى ليحصل على استقلاله وسيادته لن يفقد الأمل نهائيا في الجامعة العربية. يتجدد أمله في أن الجامعة لن تتخلى عنه انطلاقا من ولائها لماضيها المشرف مع معظم شعوب العرب.

ثانيا: يعتقد معلقون وسياسيون إسرائيليون وغربيون متعاطفون مع الصهيونية أن وجود الجامعة العربية كان عقبة رئيسة من بين عقبات أخرى عطلت هدف إسرائيل والغرب تصفية قضية فلسطين في وقت مبكر. بل إن مسئولين كبار في الولايات المتحدة وفرنسا لم يخفوا حقدهم على هذه المنظمة التي وصموها بالعداء للسامية وطالبوا بحلها ورفضوا الاعتراف بها وحاربوا جهود فتح مكتب لها في واشنطن. فلسطين، ومعها مؤيدوا حركة تحررها وإقامة دولتها على أرضها لا شك يعترفون بفضل جامعة الدول العربية على استمرار القضية داعمة لبقائها مثارة ومذكرة بنضال هذا الشعب، نضال عمره من عمر الجامعة. لا غرابة ارتباط الاثنين ببعضهما البعض. إلى متى؟، أتساءل كما يتساءل كثيرون استبد بهم القلق.

ثالثا: هذه الأمة وبخاصة مجتمعاتها الأكاديمية ومنابرها الفكرية وقياداتها الثقافية، يجب أن تشعر بفضل الجامعة العربية في صنع نخبة عربية، أكاديمية وسياسية واقتصادية، ساهمت في وضع أسس لعلم التكامل عربي. لقد خلقت الجامعة بينما كانت تعد لقمة عمان الاقتصادية مدرسة في فلسفة الاندماج الإقليمي أضافت بها اجتهادات من منطقة نامية إلى المدرسة الأوروبية التي نفذت مشروع الوحدة الأوروبية.

رابعا: في رأيي، يعود الفضل أيضا إلى هذه الجامعة العربية المغلوبة على أمرها في التأكيد المستمر على أن نظاما إقليميا عربيا قام في هذه الأنحاء، حدود “ه” معروفة وموثقة تاريخيا وأيديولوجيا. لقد نجحت هذه الجامعة خلال فترة طويلة نسبيا في أن ينشا جيل عربي أو أكثر واثق تماما من أن من يقطنون الناحية الأخرى من الحدود هم ليسوا من العرب ولا يجوز بأي حال خلط الهويات على جانبي الحدود أو التنازل عن الهوية العربية لهوية أخرى أعلى أو أدني. أكتب هذا وأنا أعلم أن التحولات الاجتماعية والسياسية في السنوات الأخيرة أفرزت ثقافة واجتهادات ترفض هذا الفضل، بل ربما حملت الجامعة مسئولية حالة الكره والعداء المتبادل في كل أنحاء الشرق الأوسط.

***

أمام هذه الخلفية يجري التحضير لعقد قمة عربية في مدينة الرياض، أي برئاسة المملكة العربية السعودية.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version