لم يعد لفلسطين الا دمها تواجه به عدوها، الذي كان، ذات يوم، عدو الامة العربية وأمة الاسلام والذين لم تفسد نصرانيتهم الصهيونية، وبات اليوم صديقاً لكثير من سلاطين العرب وحليفاً لبعضهم ضد اهلهم الاقربين في ارض المسجد الاقصى وكنيسة القيامة ومسار البراق إلى المسجد الحرام.
صار لإسرائيل “حلفاء” و”شركاء” من قادة العرب في المشرق والمغرب، وفتحت عواصم عديدة ابوابها التي كانت مغلقة في وجه الصهاينة “لزوارها الكبار” بشخص نتنياهو، تستقبله على الرحب والسعة كحليف محتمل وشريك في المصير عبر مواجهة “الاخوة الاعداء”..
من حق نتنياهو، اذن، أن يقول إن العديد من وزرائه سيقومون بزيارات ودية لعواصم عربية دعتهم إلى زيارتها، “توثيقا” لعلاقة ود وصداقة بعد “عداوة غير مبررة” امتدت لأجيال عدة من دون مبرر! ولقد ذكر البحرين بالاسم بعدما تخلت عن الحذر وضرورة التستر في علاقاتها المستجدة مع العدو الاسرائيلي.
… ومن حق الفلسطينيين، بالمقابل، ان يستمروا في نضالهم من اجل تحرير ارضهم، مهما بلغت التضحيات، وان يزيدوا من نزولهم إلى الساحات والشوارع، في مدنهم وقراهم، التي كانت مدنهم وقراهم عبر التاريخ، وان يواجهوا جنود الاحتلال المصفحين بما ملكت ايمانهم من الحجارة فإلى الرصاص فإلى العبوات الناسفة، ومهما بلغ الثمن شهداء وجرحى من اجل الارض المقدسة.
“ارض السلطة” ليست لها حصانة، انها بعض “ارض الجهاد”.. وهكذا فلا ضير في أن تشهد عمليات رصد واقتحام لقوات الاحتلال الصهيوني..
.. ولسوف ترد قوات العدو الاسرائيلي، فنتربص بها ونجعلها تدفع الثمن مضاعفاً. لن يأخذوا ارضنا ونحن ننظر اليهم بحرقة، صامتين، بل سنواجه بما ملكت ايماننا، فنحن اصحاب الارض.. كنا، عبر التاريخ، وسنبقى في الحاضر والمستقبل.
الارض العربية التي كانت تعج بتظاهرات الغضب وشعارات التغيير، تتبدى الآن صامتة كالقبور. قهرها النظام العربي، تماما كما يقهر العسكر الاسرائيلي تظاهرات اهل فلسطين.
اختفى اسم فلسطين من الحديث العربي، مكتوباً او مذاعاً او متلفزاً، المساحة كلها الآن للعدو الاسرائيلي، خصوصاً بعد انتقال العديد من اهل النظام العربي من خانة “الاعداء” إلى خانة “الاصدقاء”. إن ستاً من الدول العربية تقيم الآن، او هي على وشك أن تقيم علاقات دبلوماسية مع اسرائيل. وثمة دول أخرى تتعامل سراً مع الدولة التي كانت “عدواً” فصارت “صديقاً” بل “حليفاً”.
لقد جاء “الربيع العربي” قبل أوانه قد استبق موعده متعجلاً ففاجأ الجمهور قبل “اهل النظام”.. وكانت الفوضى التي مكنت اهل النظام من تغيير جلده لينقض بعد ذلك على “أهل التغيير” يخادعهم بحمل شعاراته وتبني مطالبهم ليطمئنوا اليه فيعيدهم إلى المربع الاول بعد تحذيرهم بل وتحميلهم المسؤولية عن تدمير الوطن والامة.. تمهيداً لان ينقض عليهم فيفرقهم ايدي سبأ بين المعتقلات والمنافي او صمت السلامة.. ونسيان فلسطين.
لفترة طويلة احتلت غزة الصدارة، باسم فلسطين ومن أجلها.. في حين كانت الضفة الغربية المعزولة بالاحتلال الاسرائيلي تداوي جراح خيبة الانتفاضات المتتالية فيها التي لم تجد الحاضنة العربية، وتركت لمساومات “السلطة” التي ليس من اسباب الحكم الا موقع “الشرطي الوطني في خدمة الاحتلال الاسرائيلي”..
ها هي الضفة تستعيد دورها وموقعها على خريطة النضال الوطني الفلسطيني، وتنطلق العمليات الفدائية من قلب “العاصمة الافتراضية” رام الله، ثم تتمدد إلى انحاء أخرى مؤكدة استمرار الانتفاضة.. طلبا للنصر، او اسقاطاً لمشروع تمدد الاحتلال في اتجاه القدس لتكون العاصمة العتيدة للكيان الصهيوني بديلاً من تل ابيب.. معززة قرارها بقبول بعض الدول (في اميركا اللاتينية خاصة) أن تنقل سفاراتها إلى القدس المحتلة، لا سيما وان اكثر من دولة عربية تصرفت وكأن الامر لا يعنيها.. بمعنى انها تعتبر فلسطين جميعاً محتلة والسلام!.
في هذا الوقت كانت دول الخليج تحاول تأكيد “استقلالها” عن سائر الدول العربية، فتبتعد أكثر فأكثر عن فلسطين، مما يعني تقصير المسافة إلى الكيان الصهيوني..
وجاءت جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في واشنطن لتفتح جبهة جديدة ضد المملكة السعودية تبرر لها مهادنة واشنطن ومحاولة استرضائها.. لا سيما بعدما صوت الكونغرس بأكثريته الساحقة مع قرار إدانة المملكة بشخص ولي عهدها الامير محمد بن سلمان بجريمة اغتيال الخاشقجي، وهي غير مسبوقة بعلنيتها كما بفظاظتها.
وما يعنينا أن هذه الجريمة تحولت إلى أداة ضغط اضافية على المملكة، خاصة، ودول الخليج عامة… بل انها تحولت إلى مبرر إضافي لتقديم التنازلات السياسية عن طريق الاعتراف بإسرائيل، مما مكن نتنياهو من التباهي بأن العديد من الدول العربية (وفي الخليج تحديداً) هي في الطريق إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني مشيراً إلى “مملكة البحرين” بأنها ستكون “الرائدة” في هذا المجال.
يرى بعض المراقبين أن موعد التغيير في “السلطة الفلسطينية” قد حان، وان على الرئيس محمود عباس أن يخلي مكانه لآخرين أقوى شعبية وأصلب موقفاً تجاه العدو الاسرائيلي بعد خيبات الامل المتكررة في احتمال “تنازل” اسرائيل، او الغاء اجراءاتها التي تستهدف اسقاط “مشروعية” الدول الفلسطينية، بحيث لا تُبقي لها من ارض فلسطين التاريخية الا بعض القدس وبعض الضفة الغربية التي يمكن استخدامها كرهينة ضد الثورة او أي تحرك وطني شامل في كامل الارض الفلسطينية الباقية بأيدي اهلها الذين كانوا دائماً اهلها.
وهكذا، فان الشعب الفلسطيني يرى نفسه ـ مرة أخرى ـ وحيداً في مواجهة اسرائيل المعززة بالتأييد الاميركي المفتوح، والمعززة الآن بتحول “الصمت” العربي إلى “اعتراف بالأمر الواقع”.. ولا حول ولا قوة الا بالله العلي القدير.
البعض يتهم حركة حماس انها تهيء نفسها لخلافة “فتح” في “السلطة”، مفيدة من تقدم محمود عباس في السن، والترهل الفاضح في حركة “فتح” بعد إغراق كوادرها المميزة في السلطة التي لا سلطة لها..
ولكي يعزز هذا البعض إتهامه فهو يركز على دور الجمهورية الاسلامية في إيران بتشجيع “حماس” على ركوب هذا المركب الخشن، وصولاً إلى اتهام قيادة “حزب الله” في لبنان بلعب دور المساند لهذا “التنظيم الاسلامي” هو الآخر، بغض النظر عن الفروق بين “سنية” الاول و”شيعية” الثاني..
مع الأسف، ليس بين الدول العربية من يجد لديه القدرة (او حتى “الرغبة”) لإشغال الذات بالقضية الفلسطينية المعقدة، خصوصاً إذا احتسبت الولايات المتحدة راعية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، أمس واليوم وغداً.
ذلك أن معظم الدول العربية معطلة عن الفعل، اما نتيجة البعد او الانشغال بهجوم اولى بالاهتمام: فسوريا والعراق، ومعهما لبنان، مثقلة بأشجانها والتركة الثقيلة للحروب فيها وعليها. والخليج يقارب الخروج من دائرة الحرب ضد اسرائيل ليدخل خانة “السلام” معها. والمغرب لا يحتاج “صلحا” مع اسرائيل. والجزائر مشغولة برئيسها الذي يرفض الاعتذار بشلل جسده لكي يخرج من دائرة السلطة .. وليبيا تنتظر من يعيد استيلادها من جديد.
السؤال المقلق الآن: هل دخل العرب، بمجموعهم، “العصر الاسرائيلي”، ام انهم ـ بكتلتهم العظمى ما زالوا رافضين الإقرار بهذا “الامر الواقع” كقدر لا مفر منه؟
ومن أين يأتي الأمل.. الا من فلسطين ذاتها، ليوقظ الامة لتنهض إلى واحجبها في تأمين غدها.. الذي يمكن أن يكون اسوأ من الحاضر، الا اذا حضرت الارادة لتغيير الواقع وفق الامل المنشود.. والحق المشروع.
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية